«الشّركُ» الأوسط
ثائر أحمد ابراهيم
الفسيفساء، تعبير مجازي عن صورة مبتكرة أنشأها ترصيع شظايا مختلفة في مشهد يمكن التقاطه. إنها حالة قسرية الولادة تخالف كلّ أصول الطبيعة، ووهم لا يستسيغه كثيرون على رغم تعدّد الأصابع التي تشير إلى عبقرية منجزه وكثرة الألسن التي تمجّد محاسنه، وأجزم أنه في لحظة نجاح أميركا بتشتيت قوى المحور الذي تآلف بغاياته وتوافق بمصالحه وخطا خطوة في طريق استكمال وجوده، سيمحو العالم من قاموسه لفظة الفسيفساء.
إنّ التعقيد البادي في المشهد المشتعل لمنطقتنا تبدّده العودة بالتحليل إلى طور البداهة، لذا فلننظر من الضفة المقابلة بعين السخط، محتملين انتقاد المغرمين برؤية النصف المليء من الكأس، ومفضلين الدلالة على الفراغ الحقيقي بين جدران كأس نخشى عليها من التهشم، لنرى الأمور بمأسوية ملّت الرؤى المتفائلة، وليتبنّى بعد ذلك من يشاء الحقيقة التي يرى صوابها.
الفرق بين أميركا وأعدائها أنها أسبق بخطواتها الخادمة لاستراتيجية لم يعد بمقدور كثيرين تبيّن مضامينها ظناً منهم أنّ أميركا غيّرت خططها الكبرى لحسابات المصلحة الضيّقة، متناسين أنّ عقيدة الإمبريالية طاغية بثبات على كلّ حراك، وأنّ المتبدل هو التكتيك الموصل للغاية.
أميركا تقرأ وتصنع الأحداث فتغدو سبّاقة في درء الأخطار عن وجودها، لتلحق الدمار بوجود الآخرين الساعية إلى استعبادهم بعد جعلهم شعوباً وقبائل لا ليتعارفوا بل ليتقاتلوا إلى ما شاءت أميركا.
أميركا التي كادت تسقط من حسابات الوجود السياسي العالمية نتيجة صمود الدولة المقاومة، عادت لتنتعش أحلامها بالسيطرة، بعد نجاح الرمية الأوكرانية بإرباك نشاط الروسي وعرقلة تقدمه، انتعاش اتكأ على تراخ أصاب المحور الناشئ لمواجهة غطرستها نتيجة انشغاله بتجميع أوراقه المبعثرة، متبنياً نفساً طويلاً ما عاد يجدي في ظلّ سرعة الجنون الأميركي.
الرئيس بوتين الطامح إلى توسيع النادي النووي بتوسيع تحالف شنغهاي لإخراج منظمة عالمية جديدة تتبنى مضامين ميثاق الأمم المتحدة، وتستبدل مجلس أمن مسلوب الإرادة أميركيا بمجلس أمن حق النقض فيه بيد الهندي والباكستاني وربما الإيراني، مدعّماً توجهه بقوة اقتصادية متسارعة النمو لمنظمة البريكس، يتمهّل في إنجاز طموحه، مستنداً إلى قناعته بحتمية حدوث انشطار سياسي عالمي وتمخض حلفين جديدين تقود أحدهما أميركا لتبقى قيادة الآخر لروسيا.
وإيران المنتشية بنموها الاقتصادي والعسكري تأخذ دفقه من هواء فسحتها الجيوسياسية بعد تمدّد حلفائها في اليمن والقطيف الخليجية، لتنتظر مسار الأحداث المهيأة لإنجاز مشروعها النووي.
ولبنان المتروكة شياطينه لتستفرد بحزب الله، يتهيأ لدم أسود تفتح شقوق جراحاته مجموعة الإسلاموية العرجاء المستغلة رغبة الحزب في عدم الانجرار إلى حرب طائفية.
أما الدولة الصينية المضطربة من إيبولا ومن شيوخ «بوكو حرام» تفقد رصانتها لحسابات الحفاظ على استثماراتها في القارة الأفريقية، لتبدو خجولة أمام عصابات أوباما.
والخليج المهووس بأحقاده الفوقية يتنطح فيه الكفر الوهابي لمهمة الإفصاح عن إسلام جديد ينسف تعاليم المحمدية المستهدفة بالأذية، ليتلاقى وإجرام تركيا الحالمة بتزعم شطرٍ مختلف من المنتسبين إلى حالة تسمّيها إسلامية، يشرعنها دعم جنود الخليفة البغدادي المدان أممياً، وهي الموعودة مقابل إجرامها بالسماح لها باحتلال أجزاء جديدة من أرض الكرامة السورية.
وتبقى الجمهورية النازفة دماء أبنائها تنزف ما تبقى من آلام يعززها إحساس أبنائها بتآمر العالم ضدّهم، إحساس أعربت عنه أسئلة مقلقة وُجّهت إلى مسؤول الأمن القومي الإيراني شمخاني!
هنا وفي غمرة النظرة المتشائمة تطلّ البراغماتية السياسية بحلولها المتعارضة مع أخلاق الدولة السورية وعقائدها، لتطرح أمثل حلّ لإنهاء الإنهاك بارتكاب الشرك الأوسط.
الشرك الأوسط المشابه لشرقنا الأوسط درجة من درجات الكفر لكنه ليس بأعظمها، إنه إقرار بأحقية طاعة الخاطب، خطاب سيد العالم من فوق منبر الأمم المتحدة المصمّم على إيلاج أميركا في أدق ثنايا الحياة الأوسطية لدول الشرق المقهور وتبني سياسته.
إنه ارتماء في حضن الأميركي، واستسلام غير مشروط، لكنه بكلّ تأكيد ليس أسوأ من الشرك الأكبر البادي لأهل سورية بمصيبة التقسيم الذي تسير أميركا وزبانيتها في الداخل والخارج بخطى ثابتة لتحقيقه من دون حراك فعلي رادع من باقي المحور.
في سورية العربية شعب وجيش وقائد يؤمنون ويعلمون أنّ كلّ الشرك حرام، وأنّ التراجع إلى الخلف خطوة هزيمة تامة، وأنّ التخلي عن مسؤولية صون الأرض والكرامة خيانة لدماء الشهداء وإهدار لها، بيد أنّ الرهان على قدرة التحمّل في ظلّ تجاوز التضحيات إلى حدّ المقبول والمقدور عليه رهان غير مضمون العواقب خصوصاً أنّ جزءاً من مشكلات سورية هي تمسكها بأخلاقياتها السياسية ومواقفها المبدئية.
لا تأكل الحرة بثديها مهما جاعت، لكنها قد تفعل إذا ما شارفت على موت وشيك، فهلا يتعظ المؤمنون.
ألا هل بلغت، اللهم فاشهد.
محام