«دولار واحد في اليوم»… مرارة بشرية جديدة برؤية فيلموغرافية
رنا صادق
لم تعد وجوههم وعيونهم محجوبةٌ أو مخفية، هذه العيون التي تتنقل من ألمٍ إلى بؤسٍ، هناك، في مخيمات اللاجئين السوريين في البقاع، تعيش الشقاء على هامش الحرب على سورية. لم تعد رؤيتهم خياراً. بل حتمية. المارة في الأسواق والشوارع، الزبائن في المطاعم والمقاهي، الطلاب وأصحاب الإيرادات، حامت نظراتهم نحو إعلانات أطفال تلك المخيمات في فيلم قصير استثنائيّ للمخرجة والمصوّرة جوسلين صعب.
«دولار واحد في اليوم»، تجربة جوسلين صعب الفوتوغرافية الثانية بعد «عقل، أيقوانات، أحاسيس»، عام 2008. وثّقت تناثر المطامح باختلافها وتشابك التعابير، أزاحت ستارةً مخفيةً عن التضادّ في المخيمات بين الخيم المعمّرة، التي تتألف من الإعلانات ذات القشرة السميكة الباهظة وبين سكّان هذه الخيم بحدّ ذاتهم.
دواليب من الأعلى وحجارةٌ من الأسفل، ثُبتت الخيم بها، الإعلانات على الخيم السكنية عبارة عن صورٍ لوجوه غامضة بثوب الغضارة المفخّخة وماكينات مستوردة معظمها لا مكان لها هناك. بالقرب منها، من جهةٍ ما، عيون أطفالٍ مالت نحو الغد برؤية ضبابية، مليئة بالتساؤلات.
تضادّ واضحٌ قدّمته المخرجة والفوتوغرافية جوسلين صعب في معرضها «دولار واحد في اليوم» الذي يحوي هذه الصور. صورٌ عكست وفيلمها القصير الذي عرض في المعهد الفرنسي في بيروت منذ بداية الشهر الحالي ويستمر حتى السادس عشر منه. تفاوتٌ ملحوظٌ في الخيم المعمرّة اذ جرّدتها من كونها مكان للعيش، وركّزت على محتواها ومادتها الشكلية التي تتصدّع ولا تلتقي واللاجئين، بل اعتبرتها صعب صورة تعنيف قاهر مختفّ. المفارقة هنا، في الشكل الضمني في اختلاطات هذه الصور وتناقض موادها، بين أطفال ونساء ورضّع تتهافت أنفاسهم نحو لحظة أمان من جهة، وبطش الإعلانات التابعة لشركات وأصحاب البنوك في لبنان من جهة أخرى، بصورة حيّة وحقيقية إلى حدّ كبير قيّمت تباعد مظاهر الحياة، هناك.
بالأبيض والأسود فرّقت صعب التضادّ بين مواد التجربة. اشتدّ سواد الوجوه الإعلانية التي تتألف منها الخيم، في المقابل تميل نحو البياض حين يكون الأطفال مركز عدستها، رافقت الألوان الفاتحة هذا البياض. ازدواجية خلاّقة. تظهر غرور المواد الإعلانية على أنها هاربة من كوكب آخر، وما تحمله من ويلٍ كامنٍ.
الفيلم عبارة عن نغمة تواترية على محاذاة المخيمات، يبدأ بمشهد الخيم التي انتشرت مبعثرة، يليه احتكاك مع النساء اللواتي عرضن بطاقات اللجوء الخاصة بهن، وفي المشهد اللاحق لمحة عن حياتهن وطريقة عيشهن، التي يمكن تصوّرها بكل جوانبها. مروراً بالأطفال. ثم، نرى الصور عينها، الطفل نفسه، والأم نفسها، على شكل لوحات إعلانية على الطرقات والجسور أمام المارة في العاصمة بيروت، تتبعه بورتريات ضخمة ـ كإعلانات تلك الخيم ـ للأطفال في الملاعب والمقاهي. ومشهدٌ أخير، حين تنزل هذه البورتريات من مرفأ بيروت.
بالعودة إلى جوسلين، تجدر الإشارة إلى أنها مولودة عام 1948، من أفلامها «بورتريه لمرتزق فرنسي»، «بيروت لم تعد كما كانت»، «أطفال الحرب»، «Sud-Liban – Histoire d>un village»، «القاهرة مدينة الموتى»، «بيروت مدينتي»، «غزل البنات»، «كان يا ما كان، «بيروت» وغيرها. أنهت دراستها في الاقتصاد عام 1970، وبدأت العمل في التلفزيون كمراسلة حربية في مصر وجنوب لبنان. ثم ذهبت عام 1971 إلى ليبيا، قدّمت تقارير عن حرب أكتوبر 1973، وعام 1975 عملت مراسلة حربية في التلفزيون الفرنسي.