مختصر مفيد كما فعلتها تركيا في الذهاب… بإمكانها أن تفعلها في الإياب

خلال سبع سنوات تصدّرت تركيا جبهة التحالف الذي شنّ الحرب على سورية، ووضعت كل ثقلها لربح هذه الحرب، بل وضعت مصيرها في كفة وربح الحرب في كفة، وبرغم ما قد يُقال عن حجم استثمار حلفائها لهذه الحرب وربط مصيرهم بمصيرها، فإن أحداً منهم لا يملك تأثير تركيا في تحديد مصير الحرب لدرجة يُقال إنه لولاه لما كانت الحرب أصلا، بمثل ما يصحّ القول عن تركيا، وعن تركيا وحدها، وكذلك فإن أحداً منهم لم يصل لحد المخاطرة بدخول حرب كما فعلت تركيا مع روسيا بإسقاط طائرتها كرمى لمعادلة ربح الحرب في سورية، أو استوطن الإرهاب على أرضه ومنح التواصل في بيئته والتجذّر فيها، لأنه جعلها قاعدة انطلاق لشن الحرب على سورية، كما فعلت تركيا، وما حمله ذلك من تهديد مباشر لأمنها وأرواح مواطنيها، كما فعلت تركيا.

وحدها تركيا جمعت المعادلتين، معادلة لولاها كادت الحرب ألا تكون، وخاطرت بالحرب حتى كادت هي ألا تكون. وبالمقابل لا يمكن لأحد أن يدّعي أنه كان بالإمكان وجود بارقة أمل لكسب هذه الحرب، والإمساك بقرار سورية وفوّتتها تركيا، حتى يكون خروج تركيا من خيار الحرب على سورية دون الخروج من خيار العداء لها، خير دليل على أن هذه الحرب بلغت الطريق المسدود وفقدت كل أمل بالفوز، ويكفي الاستدلال منذ معركة حلب الفاصلة على الترنّح التركي بين خيارات المناورات على ضفتي الحرب، بين موسكو وواشنطن، بين طهران والرياض، بين القلق من كيان كردي والأمل بسقوط سورية، بين قيادة الجماعات المسلحة نحو جولة مواجهة جديدة أو أخذها إلى خيار التسويات، للقول إن خيار الحرب فقد بعد الأمل بالنصر قوة الدفع، وأن قوى الحرب باتت بلا رؤيا قادرة على جمع الحلفاء الذين خاضوها منذ البداية معاً كبنيان مرصوص.

عندما يهتزّ موقع تركيا في حلف الحرب، فهذا ليس فعل خيار تركي خاص، ولا نتاج اجتهاد انتهازي بحثاً عن مكاسب، فكل ما يمكن أن تكسبه تركيا بالخروج من خيار الحرب ليس إلا تخفيفاً لخسائر مواصلة الخوض في غمارها، وعندما يهتزّ موقع تركيا في خيار الحرب يكون خيار الحرب هو الذي اهتزّ ففقد القدرة على جذب تركيا إليه، ويكون على الآخرين أن يبحثوا عن خيارات تخفيف الخسائر وربما رمي أثقالها على تركيا فيصير عليها البحث عن خياراتها. وفي طليعة الحلفاء الذين توضع على جدول أعمالهم الأسئلة المشابهة للسؤال التركي واشنطن وتل أبيب والرياض. والمفترض أن خيار واشنطن هو الموجّه لقوى الحلف من جهة، وأنّه إذا تساوت عنده الخيارات المفضلة للحلفاء إذا تناقضت فيحاول جمع المشترك منها لصياغة خطة الحلف الجديدة.

بدأت تتوضّح الصورة لتركيا بأن مكانتها عند واشنطن ليست موازية لمكانتها التي جسّدتها في الحرب التي اتخذت قرارها واشنطن وعقدت لواءها الانتحاري لتركيا، فهي الشريك الأكبر بين سائر حلفاء واشنطن، والأهم في الجغرافيا والسكان والجيش والاقتصاد والوجود في الناتو والجوار والتداخل مع سورية، عندما يكون المطروح على الطاولة قرار الحرب، وعندها فقط يصير حزب الأخوان المسلمين مشروع الحزب الحاكم للعالم الإسلامي، وعندها فقط تصير العثمانية الجديدة نظرية القرن الحادي والعشرين. أما في حال الفشل فتصير تلك أساطير تركيا وحدها وخرافاتها وحدها، ويصير البديل من الحرب فرص الخيارات التي لا تتساوى فيها تركيا مع شريكيها السعودي و الإسرائيلي في نظر واشنطن. فالأولوية تبقى لإسرائيل والبديل المفضل لواشنطن هو البديل الأقل عبئاً على إسرائيل ، ولو كان ثمنه تهديد أمن تركيا ووجودها.

بعد شهور من المناورات التركية منذ تسلّم الإدارة الأميركية الجديدة مسؤوليات الحكم في واشنطن، تنقلت تركيا بين خيارات الذهاب إلى أستانة والتشارك مع روسيا وإيران بحثاً عن تسويات أمنية وسياسية، وبين التصعيد برعاية حملات وغزوات جديدة للجماعات المسلحة في ريف حماة وأحياء دمشق، بانتظار أن تبلور واشنطن بدائلها، وعندما ذهبت واشنطن لضربتها في مطار الشعيرات قرعت أنقرة طبول الحرب وأعلنت جاهزيتها للمشاركة في حرب أشمل، بينما كانت واشنطن تدرس خيارات التسويات، وتخوض اختباراتها، خصوصاً مع موسكو، وتضع شرطاً حاسماً هو أمن إسرائيل للسير بكل خيار للتسوية. وتعلم أنقرة أن شيئاً يخصّها لم يعرضه الأميركيون على الروس، بل حصراً عرضوا وعرضت السعودية وشاركوا هم في العرض، السير بتسوية تزول فيها كل شروط تتصل بالرئاسة السورية مقابل خروج حزب الله من سورية وتغيير موقع سورية من خيار المقاومة.

حتى اللحظة التي وصلت فيها زيارات ريكس تيلرسون وعادل الجبير إلى موسكو إلى الطريق المسدود، وجاء جواب سيرغي لافروف القاطع بلسان موسكو وطهران ودمشق، أن حزب الله قيمة مضافة في الحرب على الإرهاب، وأن وجوده شرعي كقوات روسيا الجوية في سورية، كانت تركيا لا تزال جزءاً من الحلف الذي قدّمت له كل أسباب الفوز بالحرب على سورية، لكن بعد تلك اللحظة بدأت تركيا تكتشف وجود قرار بطردها من الحلف ووضعها على لائحة الذين يجب أن تكون الخيارات البديلة على حسابهم، فالبديل هو الحرب ما لم تكن التسوية. وما دامت الحرب مستحيلة، فالخيار هو إدامة الفوضى وإدارتها في سورية وتعطيل التسويات منعاً لقيام وتعافي دولة سورية تتمسّك بخياراتها وتحالفاتها، ولو حجزت التسوية في مقاعدها مكاناً للذين قاتلوا تحت لواء واشنطن وحلفائها، كما يقول مسار أستانة.

إدامة الفوضى وإدارتها في سورية بدلاً من تسوية لا تغيّر خياراتها وتحالفاتها، هما الخيار الإسرائيلي الذي صار أميركياً، وبالتالي سعودياً، ومضمونه الاستثمار على بقاء داعش وإدارة الحرب ضد التنظيم بضمان تنقّله في الجغرافيا السورية، والاستثمار على العنوان الكردي لخوض الحرب المتنقلة على داعش من جهة، وتبرير إدامة الوجود الأميركي وتعطيل وحدة التراب السوري وقيام الدولة السورية من جهة ثانية، ومعهما إدارة حرب السيطرة على الحدود السورية العراقية، باعتبارها الشريان الجغرافي الذي يحمل المعنى الاستراتيجي في خيارات سورية الكبرى وعنوانها المقاومة. وكذلك المعنى اللوجستي في خطوط الإمداد لقوى المقاومة وتواصلها. والجوهري في هذه الخطة البديلة للحرب والتسوية معاً هو التشجيع على خصوصية كردية في منطقة الحدود السورية التركية، والمعلوم سلفا ما يتضمّنه ذلك وما يعنيه من تهديد للأمن التركي والمصالح التركية ووحدة التراب في تركيا.

صار واضحاً أن على تركيا أن تتحوّل مكبّاً لنفايات حلفائها، وأن تدفع عنهم فاتورة خسارة الحرب، ولم يشفع لها ما فعلته لجلب حركة حماس نحو وسطية تريح إسرائيل في خطابها السياسي، أملاً بضمّها إلى حراك التسويات تحت سقف أمن إسرائيل ، والحرب الجديدة بدأت طلائعها تلوح في الأفق التركي، من مفاوضات فاشلة ومهينة في واشنطن للرئيس التركي، يعقبه تسليح نوعي للأكراد في سورية، تحت شعار الحرب على داعش، بينما التفاهمات مع داعش قائمة على مقايضة تسليم الرقة بلا قتال بتأمين ممرات انسحاب آمن لمقاتلي التنظيم إلى البادية السورية قرب الحدود السورية العراقية، وقبل أن يهضم الأتراك الصفعة الاستراتيجية والوجودية يصل الرئيس الأميركي إلى الرياض ليتوّجها زعيمة للعرب والمسلمين، ويبيّض صفحتها في تمويل الإرهاب ورعايته متوّجاً ملكها ملكاً لحلف الحرب على الإرهاب، وتبدأ تواً خطة معاقبة الامتداد التركي وتركيعه لعزله عن أنقرة وضمه للمنظومة السعودية، برضا إسرائيلي حازت عليه الرياض بما وعدت وتخطّى ما منحته الدوحة لتل أبيب بأشواط.

تقف تركيا أمام المرآة اليوم وترى أنها صارت هدفاً للحرب التي بدأت شريكاً أساسياً في خوضها، وأن أمامها إما الاستسلام وقبول التشظّي الذي يعدها به كيان كردي على حدودها مع سورية، وارتضاء انقلاب يُطيح بحليفها في قطر يكرسه اجتياح سعودي لإمارة قناة الجزيرة، أو خوض غمار مواجهة لا يبدو أنها تقدر على تحمّل أكلافها وأعبائها من دون استدارة كاملة وتموضع في الحلف المقابل الذي لم يحاسبها ولم يحاسب حليفتها قطر وشريكتهما حماس، على ما ارتكبت أيديهم في سورية، بل أبقى الجسور ممدودة أمامهم لقاء التموضع في خيار التسويات بدلاً من خيار الحرب. وهذا هو مفهوم استانة الذي ولد بعد انتصار حلب.

لا تشكّل تركيا وقطر وحماس حاجات وجودية لحلف روسيا وإيران وسورية وحزب الله، بمثل ما يشكّل هؤلاء اليوم حاجة وجودية كي لا تسقط تركيا بالضربة الكردية وكي لا تسقط قطر بالضربة السعودية، وكي لا تسقط حماس بسقوطهما، لكن الكلفة المتوجّبة على الشركاء الثلاثة الذين تقودهم تركيا ليست أثماناً للحلف المقابل ولا جزية ولا ثأراً ولا انتقاماً، بل صدق في التموضع والتشارك في تفكيك آلة الخراب والإرهاب في سورية، وقطع للصلات بـ إسرائيل ، وانتقال من اللعب على الحبال، والتيقن من أن كلفة مدّ يد الخلاص لهم مكلفة لمحور المقاومة مع خصومه ومع جمهوره، لكنه مستعدّ لحملها إن أظهرت تركيا أنها مستعدة لتفعل في طريق الإياب ما فعلته في طريق الذهاب، وهي تستطيع ذلك فهل تفعل؟.

ناصر قنديل

ينشر هذا المقال بالتزامن مع الزميلتين «الشروق» التونسية و«الثورة» السورية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى