الكاتبة هيلانة الشيخ: يراعي جزءٌ منّي… وأنا لا أكتب بالقلم ولا أحلمُ بالقمم!

حاورها: أيوب مرعي أبو زور

تقول: «لأنّني أمقت التعريف، شكّلت هيلانة بعيداً عن التصنيف هيلانة فقط وحروفي هي هويّتي وكتاباتي، هي جوازي للعبور داخل السطور وخارجها، لا أنتمي إلى المسمّيات ولا أسعى إلى مساحة في هذا الحيّز الثقافيّ ضيّق النطاق».

هي شاعرة وروائية ورسامة ثائرة وجريئة، في جعبتها حتى الآن أربعة إصدارات: ديوان شعر «الهيلانة»، رواية «تبسّمت جهنّم»، «مقتطفات الهيلانية»… نثر، وسيرة ذاتية بعنوان «شخصيات من ورق». هي الأديبة السعودية هيلانة الشيخ، كان لنا معها هذا الحوار.

كيف تصفين علاقتك بالحرف؟ ومتى بدأت؟

ـ علاقة عشقٍ أسطوريٍّ تشبه أساطير ألف ليلة وليلة، تبدأ كلما حضر الوحي واشتعل الشوق من قبس الشمس كما لو أني شهرزاد التي تسامر شهريارها، تتزين لأجلهِ وتُعد عِدّتها تسترسل بالكتابة حتى يُباغتها النوم كل يوم. ولا بدّ أن تُجاهد لأجل حبيبها وتعتني بتفاصيلها كي تبدو الأولى والأخيرة. هكذا تنمو علاقتنا حتى تطول عنان السماء وترصد النجوم حرفاً تلو حرفٍ وتحصد البريق من عتوم الخيال إلى مالا نهاية.

عندما بلغتُ العاشرة من العمر كنت أكتب كي أخطّ الحروف وأبتكر لها ملامحَ غير مألوفة، فاختلط عشق الكتابة والرسم ولم أرحم الحائط أو المرايا أو حتى الشراشف من نقش حروفي على مساحاتها وإن قلت: أنّي أكتب على الهواء يظن البعض أنها مبالغة رغم يقيني أن ما أكتبه لن يقرأه سواي لكنها عادة اختزلت فيّ منذ بدأ تكوين أنوثتي وأنا أنثى تسعى للاستثناء ولم يخترقها الزمان ولا المكان بعد.

كيف تطوّرت هذه العلاقة؟ ومتى أبصرت النور؟

ـ عندما بدأ يتشكّل جسدي بدأت أمارس عليه كل التجارب والطقوس بما فيها الكتابة لما فيها من تجليات وتحدّيات، لم أدع مجلةً ورقيةً إلّا واقتنيتها وتصفّحت حروفها حرفاً حرفاً وتماهيت بين صفحاتها كما لو كنت أنا كل المحرّرين وجميع الصور. كانت محض أحلامٍ من أحلام اليقظة حتى تحوّلت إلى واقعٍ ملموسٍ عبر مجلة «اليقظة» الأسبوعية الكويتية ونُشرت لي الخاطرة الأولى مُوقّعة بالحرفين الأوّلين من اسمي، وتوالت المكاتيب بيننا كعاشقين، أقصّ خاطرتي وألصقها في دفترٍ أخبّئ فيه أسراري وورودي المجفّفة، حتى قبلتي أبصمها بين الورق إلى أن افترقنا وتُهنا عن بعضنا وأنا ما زلت أتخبط بين المواقع كشوارع تفرعتُّ منها إلى مفارقات ومقالات يربطني بها جسدي. أما محطتي الأولى مع عالم الإنترنت فكانت عندما أرغمت كطالبة على مجاراة مقالات الدكتور أحمد يماني عبر الاقتصادية السعودية الإلكترونية وكنت الطالبة الوحيدة التي تكتب عكس التيّار وتحلّق أبعد من المُباح.

تهوين الكتابة عكس التيار ويغريك التحليق أبعد من المباح، حدّثينا عن هذا التحدّي، خصوصاً أنك تعيشين في السعودية، وهل ربحته؟

ـ هُم ولا تسألني من هُم لأن الأنا فقط أنا، نحن كفتّان في ميزان، يبدو لهم أنّي ورقة لا تزن أحجامهم وأجرانهم الكبيرة المستديرة بينما أنا الكفة الراجحة لأنّي متجذرة في الأرض التي أنجبتني. أنا فلسطينية الطين والوتين، أردنية المشتل، سعودية الحصيل والحصيد، وما زلت أطرح.

أتعارك مع رياح العُرف وأمطار الجهل والخوف، يحاولون اقتلاعي وخرق صفحتي ولكن معركتي أزليّة وأسلحتي يشهق لها القارئ وهذا الانتصار يُجندني للكتابة على امتداد الساحة.

تبسّمت جهنم، شخصيات من ورق، الهيلانة ومقتطفات الهيلانة والقادم جولات لن تنتهي ولو أطبقوا على رقبتي بمقصلةٍ كي أُسقط قلمي تحت معتقادتهم سأُشهره في عيونهم وهو ينزف حبره أحمراً.

وبما أنّي مازلت أكتب إذن الخسارة حليفتهم وإصداراتي ذخيرتي.

«تبسّمت جهنّم» رواية قيل فيها الكثير، أخبرينا كيف تبلورت لديك شخصية بطلتك «فاطمة»؟ وما الذي دفعك إلى معالجة هذه القضية؟

ـ «تبسّمت جهنّم» خَلقٌ يتشكّل من وحيي أنا، أنفخ فيه من روحي أُجسّمه كيفما أشتهي وكيفما أشاء. وعندما أنخرط بالكتابة أترك قلمي يرسم ملامح الشخصيات كما لو كانت أجنّة فمضغة فعلقة فجسد مكتمل بكل مراحلهِ الزمنية والمكانية. و فاطمة خليط أولئك البشر الذين تتعاقب عليهم عواقب الحرمان، وبما أنّي أنثى كابدتُ في جهاد غرائزي كان لا بدّ أن يستهويني المجهول. والمجهول عندي كل شيء لم أمارسه فعلياً كالسحاق مثلا، فعندما أسبرُ أسير خالعةً كل القيود محلقةً نحو النهايات، ولا آبه للقضية كقضية كي أصلح ملامحها التي تبلورت على يديّ.

فهي بطلتي التي أعشقها وأمتزج معها في جمالها وقبحها، وأنحت لأجلها الصعب بالحب.

أتتقصدين الجرأة في كتاباتك؟ وما موقفك من اللذين يعارضون الكتابة الإيروتيكية بالمطلق؟

ـ نعم أنا أتعنّى الكتابة بجرأة وأتعامل مع النص كما يُعامل الجسد الغض، أعرّيه قدرما أُبصر على البعد الجمال الكامن فيه، وأشعر بالتجلّي والانتشاء كلما توغلت في تفاصيلهِ مُجَرِّدةً هيكلهُ من قيود الخجل والخوف، ولو كلفّني ذلك نزع اللحم عن العظم، ولا أكترث لمن يقذفون نصوصي بحصى الطهارة الملوثة ودناسة القبح.

أنا أكتب كي أتحرر، وضريبة الحرية ثورةٌ قد نفقد فيها أذرعنا وأرجلنا لأن الستارة لا تليق بالأحرار.

وبما أني من مناصري الأدب الإيروتيكي، فلا بدّ أن أمتعض الرافضين له. فهذا الأدب شقّ موروث من تاريخنا خلّد أسماء لا ينطفئ حبرها ككتاب «رشف الزلال من السحر الحلال» لجلال الدين السيوطي، وديوان أبي حُكيمة، كذلك «نزهة الألباب» لشهاب الدين أحمد التيفاشي، «رجوع الشيخ إلى صباه في القوة على الباه» لصاحبه أحمد بن سليمان، وما زلت ضد الرافضين هذا الجنس الأدبي، وأعتبر جرأتي على المحك لم تُدرج تحت الكتابة الإيروتيكية وإن تداعى لذلك النص فلن أحجب قلمي عن خوضها.

ما موقفك من ظاهرة التضخّم التي يشهدها الأدب النسوي؟ وبحسب رأيك ما أسبابها ونتائجها على المرأة والمجتمع؟

ـ أنت قلت: ظاهرة.

وهي ظاهرة حتمية أزلية، فسيولوجية، كظاهرة الاحتباس الحراري تزداد بزيادة درجة السطحية في الكتابة عدا زيادة كمية ثاني أكسيد الضحالة «الميثان»، وكُثرة الركاكة تبرهن نُدرة الجنسنة في النص كمخلِفاتٍ لمفرداتٍ دفيئة تساهم في ترطيب جو العمل السطحي، هذه حقيقة الظاهرة التي تعرّف باسم الاحتباس الأدبي النسوي.

وأنا ممن يقدسون المصنفات الأدبيّة التي تتنصل منها الأغلبيات ممن يفتقرن لكينونتهن الأدبية، بينما أجدها امتداداً لأنثايَ الطاغية. لذا أرفض الجندرة وأرفض طمس سيكولوجية جسدي المحرض على الكتابة. وإن كتبتُ روايتي «عشقت قدميها» ـ وهي الأولى ـ بضمير بطلي «محمود»، فكان لا بدّ من تلقيحها وتنقيحها بروحي أنا.

ولو تأثر المجتمع بالأدب النسوي مقدار أنملة لزالت هواجس الأنثى بأنها الضحية، وما طالبتهُ يوماً أن يُضحّى بالمسمى إرضاءً لغرورها الجامح بل لِجهلها حجم الفارق والكارثة التي خلّفتها بعض الأقلام النسائية عندما تصدرن المشهد الثقافي.

هل الركاكة التي تحدّثتِ عنها محصورة في النتاج الأدبي النسوي برأيك؟ أم أنها تنسحب على المشهد الأدبي بأكمله؟

ـ المشهد الأدبي كاملاً طغت عليه الفوضى، والرداءة، اختلطت ملامح الأدب وفقد هويّة المسمى، الشعر لم يعد له شرع ودين الشعر، والرواية يكتبها الطفل ذي العشر سنوات والطبّاخ والجزّار، هذا روائي وهذا راوي. الكارثة أن الركيك يطفو على السطح، وهم أغلبيات بينما الابداع يسقط للعمق والقاريء يستسهل السطحية.

في هذا الزخم من الضحالة كل ما عليك الانبطاح في هذا الوحل، فاللغة هوَت من محرابها إلى ملهىً ليليٍ للكتابة. والمخزي أن الجوائز تدعم هذه الركاكة، فلا تجد مبرراً لفوز عمل يعجّ بالأخطاء والفوز حليف الرجال غالباً والركاكة كلمة مؤنثة تُبهّر العمل النسائي، فهل تستحق أحلام بركاكة عملها «الأسود يليق بك» أن تتصدر قائمة أسماء اختفى بريقها في ضوضاء الهشاشة؟!

العمل الأدبي في مجمله مهما كان عميقاً مكتملاً متماسكاً بمقدور أي ناقد يمتلك آليات النقد تشريحه واستئصال نقاط الضعف من أحشائه بمشرطٍ حادٍّ غير محايد. وأنا لست ناقدة لكني ناقمة على من يتصدرون المشهد ولا بدّ من احالتهم وتنحيهم فقد انتهت صلاحية أسمائهم كي تبزغ الأسماء المغمورة التي تستحق الفوز وماهي إلّا لحظات غربلةٍ تفصل الجيد عن الرديء.

ما الأسباب التي أوصلت المشهد الأدبي إلى ما هو عليه الآن؟ وكيف يمكن الخروج به من هذه الحالة؟

ـ الاستسهال والإسهال الكتابي، فقد اختلط الحابل بالنابل، والصالح بالطالح وتفشّى «ورم»« الجوائز. مذ بدأ التلوث الأدبي يتسرب للإبداع اختلّت الموازين من الإجادة إلى الإفاضة والرداءة، وبات هاجس الفوز هو المحرض الحقيقي على الكتابة.

فكل الأقلام صفّدت نحو مسارٍ مرصودٍ محدود المساحة ومسلَكٍ مثمّن. والثمن باهظ!

الجميع يكتبون، يكتبون لمجرد الكتابة كما لو أنها صرعة العصر الطاغية وبطالته الباطلة ولا بدّ من الانغماس في دهاليزها التي يُجيش لأجلها مليارات الدولارات لتتويج العمل الأكثر ملاءمةٍ للمنهج الممنهج كدكاكين إعلانٍ للثقافة ترضي غرور الحصيلة الحاصلة.

فكل ما عليك هو أن تضع اسم روائي أو عمل أدبي في محرك البحث لتكتشف «أكواماً» قد يزيد عددها عن عدد الوفيّات كل يوم، وعدد خيبات الأدب العربي أيضاً، لذا لم يَعد يُعدّ الأدب والأدباء المؤثر الأرجح في زخم تُشد إليه رواحل وقوافل الدخلاء من كلّ وادٍ.

فأيّ معيار للجودة؟ عندما تتصدر القائمة أعمالاً أدبيةً تزدحم بالأخطاء النحوية والإملائية أيضاً عدا الكوارث التاريخية غير القابلة للتحريف. أتلفوا الذائقة وشوّهوا مصداقية الفوز وأخفقت جهودهم في السنوات الأخيرة تحديداً بعد حصدها لأعمالٍ لا تستحق الصدارة.

تبقى جائزة البوكر متصدرة القائمة الجائزة العالمية للرواية العربية رغم وجود الكمّ مثل: الكومار الذهبي، جائزة آسيا جبار للرواية، جائزة أركنساس للترجمة العربية، جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة، جائزة اتصالات لكتاب الطفل، جائزة الشارقة للإبداع العربي، جائزة الشيخ زايد للكتاب، جائزة الطيب صالح العالمية للإبداع الكتابي، جائزة خادم الحرمين الشريفين عبد الله بن عبد العزيز العالمية للترجمة، جائزة سلطان بن علي العويس، جائزة سيف غباش ـ بانيبال للترجمة الأدبية من العربية إلى الإنكليزية، جائزة كتارا للرواية العربية، جائزة نجيب محفوظ.

فعلى غرار المنح لمجرد المنح فاز الفلسطيني ربعي المدهون بالبوكر للعام 2016 بروايته «مصائر: كونشيرتو الهولوكوست والنكبة»، وفازت «نكات للمسلحين» لمازن معروف في السنة التالية بجائزة الملتقى الكويتية، وفاز السعودي محمد علوان بروايتهِ «موت صغير»، وانشطرت الآراء حول مؤيد مصفّق ومعارض ناقم.

ولم يُضف الفوز للفائزين الحصانة من النقد بل أدخلهم في طائلة المشرط النقدي الحاد الجّاد.

ورغم هذا الفوز إلّا أن الرواية العربية لن تظفر بقارئ محاصر بموجبات الجوائز وعوالمها وتشريعاتها المسيّسة. فالإبداع أكثر اتساعاً وأفقاً، وأكثر تحرراً من معايير الزمان والمكان. وهذا التضارب حول الرواية المتصدرة على حساب روايةٍ ربما تكون الأجدر حتماً لا يخضع للذائقة. فيتوضح الوضوح قدر ما يبهته الغموض، لماذا يكمن الفوز في نطاقٍ ضيق؟ ثم ماذا عن أديب في بلاد عربية، لم تنعم عليه السلطة بوسام الدرجة الأولى، ولا حتى العاشرة، ولم يتسنّ له الحصول على جائزة نوبل، رغم إصرارهِ تصّدر «أحقّية» الحصول على هذه الجائزة؟ الروائي المبدع هو المرجِع في إثراء الموروث الثقافي فكيف بات حكواتياً مُتاجراً مأجوراً للعوزِ الكاسح المهيمن المزيَّف المُزيِّف للواقع والجمال.

هكذا تحول الإبداع إلى مُنتَج مُنتِج والقارئ مستهلِك مستهلَك.

ولا أرى مخرجاً غير الخروج من دائرة الصمت ومجابهة الحقيقة بالحقيقة.

هل هذا التردّي الذي نراه مقتصراً على المشهد الأدبي؟ وإلى أين نحن متّجهون برأيك؟

ـ مقتصر على المشهد الأدبي!

الفجور مثلث متساوي الأضلاع: الدّين الزمن الوطن. عندما أخلع عقيدتي وأُمزق جواز سفري وأتحرر من الماضي أرتجل المستقبل، فأنا حينئذ إنسانة تستحق هذا اللقب، إنسانة تستحق القلم. فأينما وضعتني أُعبئُ الخانة، وأينما قرأتني أُحرّك العانة، وأينما بذرتني ستحصدُ الجمال جُملةً وغلّة. فنحن نكتب كي نرسم القدر، نرسم الوجود، نمحي الحدود، نتّحد نطمس الأعداد والأموات ونُخرج أحلامنا من أسر الغباء والجهل.

أنا لا أُؤمن برئيس الدولة ولا الطبيب ولا الجندي المقاتل يفقد ساقه ويجري على الأخرى، ولا أُبصر العمّال والأبطال والتجّار والملوك يتربعون على عروش السحاب، أنا فقط من يحكم هذا الكون بما أكتبه وهم سيقرؤون رغم أنوفهم الطويلة وأبصارهم القصيرة قِصر أعمارهم. الأدب لا يموت ولا ينهزم، تتوالى الحروب وتتعاقب الكوارث، وتتساقط فصلاً تلو فصل حتى ينتهي المشهد الأدبي عارياً جارياً للأبد. وماهي إلّا صفحاتٍ معدوداتٍ حتى ينقشع الظلام وتُغربل الأقلام. وتُحرر فلسطين من عار التاريخ وزنزانة الأديان ويهبط الحب في قصيدة أو معزوفة أو رقصةٍ فولكلوريةٍ قديمةٍ لا تنتمي للأوطان.

أفي قولك أينما وضعتني أُعبئُ الخانة، وأينما قرأتني أُحرّك العانة، وأينما بذرتني ستحصدُ الجمال جُملةً وغلّةً تختصرين شروط استحقاق استلال القلم؟

ـ القلم مقبض الدائرة التي تُحرك المُحرّك، وعندما يتحرر الأديب من كل القيود الواهية المقنعة بأحاجيج التيارات السياسية والدينية والعرقية يصبح آهلاً للكتابة.

أنا ككل مَن يؤمن بالحرية دون انتقاص حرف أو زيادة، والحراك الأدبي كالزلزال يهدم ويشق الأرض يُخرج أحشائها ويدفن تجاعيدها، الكتابة تسونامي لا يُهزم ولا يُلجم.

وقلت العانة عمداً لأن التضاريس يكسوها العشب اليابس ولا بدّ من جزّه بحدّة الحرف وحرفة الحدّ فكيف مع تَيبّس هذه الرؤوس؟

الحرّية تلازمها المسؤولية، ما هي المسؤوليات التي تحملينها تجاه قلمك؟ وإلى أين تريدين الوصول به؟

ـ لست ممّن يلتزمون بالقاعدة وأستمتع كلما شطحتُ خارج المألوف، ولا ألتزم إلّا باللّغة، هي الرادع الوحيد والمعيار المقدّس المساسُ بهِ جرمٌ لا يُغتفَر.

قلمي يجاهد كجنديٍّ أعمى في ساحةٍ من الجثث تتراكم عليها أسرابٌ من الذباب والذئاب أيضاً.

قلمي جزءٌ منّي وأنا لا أكتب بالقلم ولا أحلمُ بالقمم، فعندما أصل سأتوقف عن الكتابة وأنكبُّ على حصيرتي أكنسُها من رمل أقدامهم التي لطالما قبّلتها وتوسّلتها الرحيل.

أنا أتحرّر عندما أكتب لأنّي مستعبدة مستعمرة بالماضي والخوف، أمارس نوباتي الملعونة كثورةٍ مجنونة تتجرد من كل مفاهيم الوجود باللغة أتزوّد البقاء.

ما مدى ارتباط الحالة الأدبية في العالم العربي بالواقع السياسي بحسب رأيك؟ وكيف ترين مستقبلهما؟ ومستقبلك؟

ـ تهويد، تهويد الأدب لحماية ظهر «إسرائيل» وبطنها ومؤخرتها. تهويد الهوية، تهويد الأرض، تهويد القدس، تهويد الرداء والحذاء، تهويد العشق، تهويد اللغة العربية، تهويد المسار بكامله.

دمائي الكنعانية تأبى أن تتطعّم وتتلوّن بدمائهم الصهيونية، ففي جعبتي من المرار ما يكفي لتحويل هذه الأرض بكاملها إلى وجبةٍ ساخنةٍ يحتسيها القارئ ليلاً ونهاراً. هذا المرار جزء من كل فلسطينية أنجبها حصار الذلّ الشائك كلما قالت: «لماذا لم تُحرّر فلسطين؟!».

فأنجبت أحراراً مبتورين من الطين، من دون رؤوس من دون عيون من دون أذرع من دون أقلام يمشون حبواً وزحفاً على الورق.

التاريخ ظالم شوّه الحقائق والحجر الذي يلتصق في كفّ الطفل ليس عاراً.

الأدب رجمٌ للزمن والوطن والبدن لذا عليهم أن يسيّسوه ويلجموا أنيابه وسنته الممطرة دماءً خضراء تنمو في صدورهم كرصاصات. والرصاصات ستكبر وتحتلُّ الحقيقة تمزق الصمت وتقتل الصوت القابع في رعشة ضعفهم. هي حربٌ حبرها وقلمها وورقها يقاوم ويقاوم حتى الحرف الأخير. أما المستقبل وجهه فمطموس ممسوس لم يتخلّق بعد، ينازع مكفوفاً، يجاهد، متشرنق في خيبات العرب والأدب.

إلّا مستقبلي أنا. وحده في طَور الاكتمال، يُحلق حُرّاً من دون جناحين، تحمله أحلامي وكلماتي المثقلة بالعشق كي يتأرجح بين السماء والماء بين الواقع الواقع والخيال الخيال ولن يغرق.

فعندما تخرج للنور «فما بكت عليهم الأرض» و«تمّوز والكرزة» و«عشقتُ قدميها»، سُيقام مأتمي وتُزفّ أعمالي من دون كفنها عارية كثورةٍ لتحرير المستقبل من زنزانة الخوف.

ستخرج رغم كل الأنوف الطويلة والمقوّسة وتنتصر لي، لي وحدي، فأنا لا أكتب إلّا لأكتب.

كلمة اخيرة تودّين قولها ختاماً.

ـ أنا أكتب لأنّني لا أملك غير أن أكتب ولو كان هذا الكونُ ضريراً أصمَّ أعمى فلن أتنحى عن الكتابة، فربما أتعثر يوماً بيومٍ بصير.

ولن أستعير من الشمس حرفاً وفخراً ولن أستميت فوق كتفٍ فقير.

فهذا الهُراء محض هراء، ومن يرتدي بزّة الحرب يدرك أن الحرير رخيص. ومن ينحني كي يلعق المُرَّ حُرّاً وضُرّاً يدرك المعنى الحقيقي لمسحِ الحذاء من أجل خبزٍ وماء.

وما زلت أكتب رغم انغماسي بمستنقعاتٍ من الزيف تكتب أنّ الحمار قد يبدو غزالاً نظيفاً وأن الجرادة فراشة وأن القردة تنكح أسداً عفيفاً وأن الكتابةَ حبر النساء.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى