ترامب وقطر: تأزيم الملفات الخارجية لن يفكك حصاره الداخلي
دقائق اعتقدها البعض كافية لسبر أغوار «الموقف الأميركي» المرجو والمعلن، ليسفر عن ضبابية جديدة في التوجهات الأميركية إزاء الأزمة «المفتعلة» داخل دول الخليج. أزمة قصدت الرياض إرغام ما تعتبره ملحقاتها الجغرافية للتسليم بالسير خلف قيادة «المملكة السعودية»، بمباركة من الرئيس الأميركي، بحجة مواجهة إيران.
السؤال المركزي الثابت على كلّ لسان يتمحور حول ماهية حقيقة الموقف الأميركي، انْ وجد، وتعبيراته وأدواته وآفاقه وتطبيقاته. أما أسباب الأزمة الحقيقية فهي أبعد ما تكون على رأس سلّم أولويات الساسة والقادة الأميركيين، نظراً لأنّ الأطراف كافة لا تشذّ عن خدمة السياسات الأميركية.
تخبّط أميركي
لن يجازف عاقل بالجزم في هذه المسألة في ظلّ سمة التخبّط الطاغية على السياسات الأميركية، داخلياً وخارجياً، بالنظر إلى الديناميكيات التي تشهدها الساحة الأميركية والصراع المفتوح بين مراكز قوى متعدّدة دفعت المؤسسات الإعلامية التقليدية الإقرار بوجود «سلطة عميقة» خفية تتحكم بمفاصل الدولة.
انفرجت أسارير الكثيرين داخل وخارج المؤسسة الحاكمة لما ينوي الرئيس ترامب إعلانه، الجمعة 9 حزيران، عن تحديد توجهاته من الأزمة الخليجية خلال مؤتمر صحافي عقده مع ضيف الزائر رئيس رومانيا كلاوس يوهانيس.
راهن الكثيرون على انّ الإعلان المرتقب سيأتي «ترجمة للسياسة الأميركية الراهنة لإعادة تصويب البوصلة مع حلفاء أميركا من دول الخليج العربي» الذين يربطهم «قاسم مشترك بين أمرائه الشباب في التنافس على اكتساب الرضى الأميركي»، وفق توصيف مركز دراسات وزارة الدفاع الفرنسية.
وسبق تصريح البيت الأبيض إعلان وزارة الخارجية عن تلاوة موقف يدلي به وزير الخارجية ريكس تيلرسون الذي تأخر 90 دقيقة عن الموعد المحدّد، ولخصه في ظرف 90 ثانية برسالة مقتضبة حملت مواقف محدّدة بلهجة توافقية للتصالح بين الأطراف الخليجية، وعرض وساطة أميركية للقيام بذلك. تخلّل الموقف إشارة قاسية لقطر «لتاريخها بدعم مجموعات متنوّعة» تتراوح بين ممارسة النشاط السياسي وبين ممارسة العنف»، ومناشدته السعودية بقبول وساطة أمير الكويت بتغطية أميركية واضحة.
غادر تيلرسون مبنى وزارة الخارجية على الفور ليلحق حضور المؤتمر الصحافي المشترك في حديقة البيت الأبيض والجلوس في المقاعد الأمامية دون تأخير.
اعتلى الرئيس ترامب المنصّة ليفجّر موقفاً مغايراً لما حدّده وزير الخارجية قبل برهة قصيرة متهماً قطر بأنها «موّلت تاريخياً الإرهاب على مستوى عالٍ جداً… والتوقف فوراً عن تمويل الإرهاب».
زمام القرار
لا يبرح المسؤولون الأميركيون التأكيد على انّ بلادهم هي مجموعة مؤسّسات متماسكة تتحكم بمفاصل القرار، وانْ تباينت الرؤى بينها لدرجة التناقض. وهي السردية المفضلة التي ينطوي عليها بعض من المصداقية، بيد انّ مركزية المصالح الاقتصادية والمالية المتشعّبة تشي بتسليم صنع القرار لمجموعة أخرى مؤتمنة على الاستراتيجيات بعيدة المدى، أبرزها مؤسسة الاستخبارات والأمن المتعددة والصناعات العسكرية والمصرفية.
ذلك الفهم أضحى من المسلمات أيضاً، ليبرز الى التداول العام مصطلح «الدولة العميقة»، على نطاق واسع، كهيئة واضحة المعالم تتحكم بمفاصل القرار الحقيقي. الرئيس ترامب، من جانبه، أبرز المؤسسة العسكرية في مقدمة الهيئات التي ترسم مصير البلاد.
أيضاً، يبرع المسؤولون الأميركيون بالتأكيد على أنه لا يوجد خلاف داخل المؤسسة الحاكمة، مهما تباينت المواقف، وأنّ الرئيس يمثل سياسة الدولة في نهاية المطاف. وربما ينبغي عليهم إجراء مراجعة دقيقة لتلك السردية في عصر ترامب الذي لا يولي اهتماماً لأيّ من وزراء حكومته وينشر ما يخطر على باله في وسائط التواصل الاجتماعي، «تويتر» بشكل خاص.
في هذا الصدد، صرّح خلال المؤتمر الصحافي المشترك سالف الذكر، 9 حزيران، بالقول الصريح «قرّرت مع وزير الخارجية ريكس تيلرسون، وكبار جنرالاتنا وطواقمنا العسكرية، أنّ الوقت حان لدعوة قطر إلى التوقف عن تمويل الإرهاب ».
سبق توصيفه أعلاه إجراءه مكالمة هاتفية مع أمير قطر، تميم بن حمد آل ثاني، يوم 7 حزيران، أعرب فيه عن جهوزيته استضافة لقاء في البيت الأبيض يضمّ زعماء الدول الخليجية لاستدراك الموقف «والتأكيد على أهمية عمل دول المنطقة بشكل جماعي للحيلولة من تمويل المنظمات الإرهابية وإيقاف الترويج لايديولوجيا التطرف»، حسبما جاء في بيان رسمي صدر عن البيت الأبيض.
للإنصاف والتحلي بالموضوعية، اعتبرت النخب الفكرية والسياسية الأميركية انّ زيارة الرئيس ترامب للرياض، وما رافقها من إغداق مالي غير مسبوق في تاريخ العلاقات الدولية، بأنها «أطلقت فتيل المواجهة الأخيرة داخل مجلس التعاون الخليجي» لخشية النخب الجمعية من التقارب السياسي الأميركي مع المملكة السعودية «على حساب صلب الدعاية السياسية الأميركية بالدفاع عن حقوق الإنسان».
تجدر الإشارة أيضاً الى ان الوزارات السيادية الأميركية، الخارجية والدفاع، لزمتا الحذر والخطاب الموزون نسبياً في التعاطي مع دول الخليج، محذّرتين من «مخاطر إطلاق وعود براقة لحلفاء أميركا من الدول العربية لن تسطيع الوفاء بها، لا سيما في سورية او اليمن، والأهمّ راهناً في قطر».
أما النخب الأميركية المعنية تحيل توقيت الانفجار في الخلاف الخليجي الى «تراجع الدور القيادي للرئيس ترامب، والرسائل المتعدّدة التي صدرت عن أقطاب إدارته… ربما تضافرت جميعها لإنضاج عوامل الأزمة». بل تجزم بأنّ الزيارة «وفرت ضوءاً أخضر للرياض وابو ظبي اتخاذ إجراءات صارمة ضدّ قطر».
ما جاء في سياق سورية، في خضمّ الأزمة الأخيرة، له تجلياته الميدانية على درجة بالغة الأهمية. نورد في هذا الصدد تصريح المتحدث باسم قيادة القوات المركزية الأميركية، رايان ديلون، 8 حزيران، قائلاً انّ «قوات التحالف الدولي لا تنوي مواجهة عسكرية مع النظام السوري او القوى الحليفة له».
كما أكدت وزارة الدفاع، البنتاغون، على الأمر عينه اليوم التالي، 9 حزيران، على لسان المتحدث الرسمي جيف ديفيس بالقول «الاشتباكات السابقة في سورية كانت للدفاع عن النفس، ونأمل ان لا نكرّرها مرة أخرى». ولمزيد من التوضيح اضاف انّ «الولايات المتحدة لا تسعى لقتال ايّ طرف غير داعش» في سورية. ويأمل المسؤولون الأميركيون ان تتلقى الرياض وتوابعها الرسالة الأميركية الخاصة بسورية على وجه السرعة.
كما انّ الرئيس ترامب، في المؤتمر السالف الذكر، أرسل رسالة أخرى للسعودية دون تسميتها بالقول «اريد أن أطلب من كلّ الدول التوقف فوراً عن دعم الإرهاب… أوقفوا تعليم الناس قتل أناس آخرين».
قطر وصفها ترامب في لقاء الرياض بأنها «شريك استراتيجي بالغ الأهمية» اما الرسالة «التصالحية» الأميركية نحوها فيحيلها الأميركيون الى تواجد أكبر قاعدة عسكرية أميركية في المنطقة على أراضيها، العديد، وأخرى في السيلية، اذ تضمّ الأولى ما ينوف عن 10.000 عسكري أميركي. كما انّ قطر تتحمّل «كامل كلفة» التواجد العسكري الأميركي على أراضيها.
يُذكر انّ الرياض وأبو ظبي طالبتا الولايات المتحدة بنقل مقرّ قيادة القوات الوسطى من قاعدتيها العسكريتين من قطر الى بلديهما، بيد انّ القادة العسكريين الأميركيين يعتبرون انّ مسألة النقل «أمر غير وارد… وكلفته باهظة تصل الى عدة مليارات من الدولارات، فضلاً عن استغراق العملية لبضع سنوات».
ماذا بعد؟
قفز ترامب بيسر من موقف الى نقيضه، والذي يبدو هو الثابت في توجهات الإدارة الحالية. في ما يخصّ قطر تأرجح بين وصفها «بحليف استراتيجي بالغ الأهمية»، الى نعتها بدولة راعية للإرهاب في ظرف أيام معدودة.
النخب الفكرية الأميركية والأقلية المقرّبة من ترامب ترجّح انّ «التناقض» الظاهري جاء ترجمة للقاءات الرياض واستحواذه على مخزون كبير من عائدات النفط والسيولة المالية كرد عرفان من البيت الأبيض للرياض وأبو ظبي وتسليم دفة قيادة الدول الخليجية تحت عباءتهما.
أما «البعبع» الإيراني، الحاضر الدائم في الخطاب السياسي الأميركي والخليجي على السواء، لا يصمد أمام النظر الى متطلبات المصالح الاستراتيجية الأميركية التي طال انتظارها للاستثمار في السوق الإيرانية، عقب الاتفاق النووي، أبرز تجلياتها كانت في صفقة الطائرات المدنية بين طهران وشركة بوينغ الأميركية.
النخب الفكرية والسياسية الأميركية النافذة، بعد إقرارها بضرورة دعم واشنطن لحلفائها الإقليميين، تحذر الإدارة من مفاقمة الأزمة مع طهران بتسليم حلفائها الخليجيين دفة قيادة الصراع معها، لما ينطوي عليها من مخاطر تهدّد المصالح الأميركية ان استمرّت واشنطن في ممارسة دور «القيادة من الخلف». بل «سيصرف الاهتمام ويقوّض الأهداف السياسية الأميركية»، حسبما أفادت يومية «واشنطن بوست»، 9 حزيران.
عند التدقيق في «الأهداف الأميركية» يبرز إلى الواجهة سعيها المستمرّ لزعزعة استقرار المنطقة وإثارة الفوضى كي يتسنّى لها الانقضاض التامّ وتطبيق مخططات التقسيم والهيمنة، ولتكن بأدوات محلية وهو الدرس المحوري الذي خرجت به بعد غزوها واحتلالها للعراق والخسائر العالية في العتاد والأرواح التي لا زالت تقضّ مضاجع سياسيّيها واستراتيجيّيها على السواء.
ترامب المحاصر داخلياً بتهمة الكذب والتضليل والمهدّد بالتحقيقات واستكمال ملف إجراءات الإقالة من معارضيه يغامر باستخدام التأزيم في الملفات الخارجية لدرء المخاطر الجدية الداخلية، والأزمة مع وحول قطر مخاطرة قد تنقلب الى عكس ما يشتهيه خاصة انّ احتمالات إنهائها بسرعة لا تبدو في الأفق القريب.
مركز الدراسات الأميركية ـ العربية