خطاب أبو مازن بين استفزاز أميركا و«إسرائيل» والقدرة على الترجمات

رامز مصطفى

فور انتهاء رئيس السلطة الفلسطينية من خطابه، الذي ألقاه أمام الجمعية العامة في دورتها التاسعة والستين، جاء ردّ الخارجية الأميركية سريعاً، وعلى لسان الناطقة باسمها جين ساكي التي قالت «إنّ خطاب أبو مازن أحدث صدمة وخيبة أمل»، معتبرة أنه استفزازي ومهين وضارّ بالجهود التي تبذلها الإدارة الأميركية من أجل خلق مناخ إيجابي يستعيد الثقة بين جميع الأطراف.

بدورها هاجمت صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية في افتتاحيتها رئيس السلطة، بسبب انتقاداته الأخيرة لبنيامين نتنياهو. ورأت الصحيفة أنّ الخطاب الذي أدلى به أبو مازن الأسبوع الماضي يحرق الجسور لاتهامه «إسرائيل» بشنّ حرب إبادة جديدة وإعلانه أنّ العودة إلى المفاوضات أصبحت مستحيلة. وانتقدت الصحيفة في افتتاحيتها عباس، وقالت إنه على مدار سنوات عديدة تراوح ما بين المشاركة فى محادثات السلام ومحاولات دفع القضية الفلسطينية من خلال العمل الأحادي في الأمم المتحدة، والمبادرات الأخيرة لم تكن لها أيّ فرصة في النجاح، وتحمل مخاطر بالهزيمة الذاتية. واعتبرت الصحيفة أنّ محاولات عباس في الأمم المتحدة ستؤدّي إلى عقوبات انتقامية من حكومة نتنياهو، وربما من الكونغرس، الذي يقدم إلى السلطة الفلسطينية الكثير من تمويلها. واتهمت «واشنطن بوست» عباس بالسعي إلى التأثير على الفلسطينيين من خلال مبادرات يعرف أنها لن تؤدّي إلا إلى تأجيل المفاوضات الجادّة لإنشاء الدولة الفلسطينية. وستؤدّي إلى تقويض من يدعمون التفاوض في «إسرائيل». وقالت إنه ظلّ لسنوات يتحدث عن التقاعد، إلا أنه في عمر التاسعة والسبعين يتشبّث بمنصبه لأربع سنوات بعد انتهاء فترته. وختمت الصحيفة افتتاحيتها بالقول: «صحيح أنّ حماس قد ألحقت الضرر الأكبر بالقضية الفلسطينية في السنوات الأخيرة، إلا أنّ عباس لم يقم بالكثير أيضاً من أجل القضية».

أما حكومة نتنياهو فقد وصفت خطاب أبو مازن بالتحريضي. فقد قالت صحيفة «هآرتس» العبرية، إنّ مكتب رئيس الوزراء حكومة الكيان بنيامين نتنياهو وزع بياناً انتقد فيه بشدة أبو مازن، واعتبر خطابه «تحريضياً مليئاً بالكذب ولا يستند إلى حقائق»، مضيفاً أنه بدلاً من أن يقوم أبو مازن بإجراء محادثات مباشرة مع «الحكومة الإسرائيلية»، يسعى لإنهاء الاحتلال من خلال مؤسسات الأمم المتحدة.

وفي تصريح له بعد وقت قصير من إلقاء عباس لكلمته قال وزير الخارجية «الإسرائيلي» أفيغدور ليبرمان إنّ رئيس السلطة الفلسطينية أظهر أنه «لا يريد أن يكون، ولا يمكن أن يكون، شريكاً في حل دبلوماسي منطقي». وأضاف ليبرمان: «ليس من قبيل الصدفة أنه انضمّ إلى حكومة توافق وطني مع حماس»، متابعاً قوله «إنّ عباس يُكمل حماس عند تعامله مع إرهاب دبلوماسي ويوجه اتهامات باطلة ضدّ إسرائيل». وتابع قائلاً: «طالما استمرّ بشغل منصب رئيس السلطة الفلسطينية، سيواصل في الصراع. إنه استمرار لعرفات من خلال وسائل مختلفة».

وصرّح داني ديان من مجموعة مستوطني الضفة الغربية، رداً على خطاب رئيس السلطة الفلسطينية أنّ عباس كان «مذيعاً لحماس»، وأن زعيم حركة فتح ألقى أكثر «خطاباته تشهيراً وافتراءً ونفاقاً». ورئيس مجلس المستوطنات السابق قال على «تويتر» إنه «من خلال استخدام كلمة إبادة جماعية، استغنى عباس عن تعاطف الجمهور الإسرائيلي، بما في ذلك معظم اليسار».

ورفعت حكومة نتنياهو من وتيرة تصعيدها في مواجهة رئيس السلطة، فأصدرت الخارجية «الإسرائيلية» تعليمات إلى سفرائها وقناصلها في دول العالم واللوبي لشنّ هجوم دبلوماسي كبير على خطاب الرئيس محمود عباس يركز على وصفه بأنه «مناهض للسلام ومعاد للسامية واليهود». وتوقعت المصادر ذاتها «أن تتراجع وتيرة التنسيق الأمني، ما قد يدفع إلى أحداث دموية في الضفة الغربية في ظلّ التحريض المباشر لعباس ضدّ إسرائيل واتهامها بارتكاب إبادة جماعية ضدّ شعبه في غزة».

يحق للإدارة الأميركية، ومن موقع الوصية الشرعية الوحيدة، والراعية الحصرية على مسار المفاوضات الفلسطينية ـ «الإسرائيلية»، بموافقة الفلسطينيين قبل «الإسرائيليين»، أن تقوم بما هو متوجب عليها للردّ على خطاب أبو مازن ووصفه بالمهين والضارّ والمخيّب للآمال. ومهدّدة إياه بعواقب ما قاله أمام الجمعية العامة على الهواء مباشرة: «على أبو مازن أن يحمد الله أنهم لم يقطعوا البث أثناء إلقائه كلمته، كما فعلوا مع رئيسة الأرجنتين، عندما لم تعجبهم صراحتها وقوة حجتها ومنطقها، والتي أحرجت كبرياءهم الأجوف، وكشفت زيف ادّعاءاتهم، فقطعوا البث المباشر عن كلمتها . نعم من حق «جين ساكي» الناطقة باسم جون كيري، أن تتحدث في تصريح الردّ بما قالته. فالإدارة الأميركية والكيان الصهيوني لم يعتادوا من أبو مازن على هكذا خطابات فيها من الاتهامات وتحميل المسؤوليات الكثير الكثير ليغضبهم ويثير فيهم الحنق والغيظ، ويدفعهم إلى التهديد. ما استوقف الإدارة الأميركية والكيان الصهيوني ما جاء في كلمة أبو مازن. نحن أيضاً استوقفنا كلامه، وإن كلّ منا من زاوية ما يراه. فخطابه جاء قوياً مترابطاً، فيه من تحميل المسؤوليات للكيان الصهيوني على جرائمه التي مارسها ولا يزال، والكفيلة بسوْق كلّ قيادات الكيان الصهيوني الحاليين والسابقين واللاحقين إلى محاكم مجرمي الحرب وتعليق المشانق لهم. ونقرّ بأنّ من كتبوا وصاغوا الخطاب اختاروا بعناية شديدة الكلمات. ولعلّ قول أبو مازن «إنّ هناك احتلالاً يجب أن ينتهي الآن»، و«هناك شعب يجب أن يتحرّر على الفور»، و«دقت ساعة استقلال دولة فلسطين» وتأكيده «باسم فلسطين وشعبها أننا لن ننسى ولن نغفر، ولن نسمح بأن يفلت مجرمو الحرب من العقاب». واتهامه «إسرائيل بأنها دولة فوق القانون والمساءلة القانونية، ومن غير المسموح الاستمرار في ذلك».

لقد أثار إعجاب الكثيرين، وبعضهم وصفه بالتاريخي أو يكاد. والبعض الآخر لم يجد فيه وعلى قوة السبك اللغوي والعبارات السياسية المتقنة، أنه لم يرتق إلى مستوى الآمال المنتظرة. ويسجل على خطاب أبو مازن أنه لا يزال يراهن على المفاوضات، رغم أنه قال «من المستحيل العودة إلى دوامة مفاوضات تعجز عن التعامل مع جوهر القضية والسؤال الأساس، لا صدقية ولا جدوى لمفاوضات تفرض «إسرائيل» نتائجها المسبقة بالاستيطان وببطش الاحتلال، ولا معنى ولا فائدة ترتجى من مفاوضات لا يكون هدفها المتفق عليه إنهاء الاحتلال الإسرائيلي، وقيام دولة فلسطين وعاصمتها القدس على كامل الأراضي الفلسطينية التي تمّ احتلالها في حرب 1967، ولا قيمة لمفاوضات لا ترتبط بجدول زمني صارم لتنفيذ هذا الهدف». ووصفه أنّ ما بين الفلسطينيين و«الإسرائيليين» هو عبارة عن نزاع وليس صراع، وهذا ما يركن إليه الكيان الصهيوني ويسعى إلى تعميمه وتسويقه.

الخطاب مختلف عن سابقيه، ولكنه بحاجة إلى استكمال. فهو أيّ الخطاب، قد وضع رئيس السلطة والقيادة في رام الله أمام مسؤولياتهم التاريخية لجهة الترجمات العملية لهذا الخطاب. في ظلّ ما شعرت به الإدارة الأميركية من استفزاز ومهانة لما احتواه الخطاب من عبارات قاسية من شأنها، وبحسب الأميركيين أن تقوّض ما تسمى «العملية السلمية» في المنطقة.

وهذا الاستكمال يقتضي التوجه مباشرة للانضمام إلى المؤسسات والهيئات والاتفاقيات الدولية وفي مقدمتها محكمة الجنايات الدولية، والاستمرار في تقديم مشروع القرار أمام مجلس الأمن الدولي لوضع جدول زمني لإنهاء الاحتلال الصهيوني للأراضي الفلسطينية «على الرغم من اعتزام الإدارة الأميركية استخدام حق النقض الفيتو ضدّ القرار». وكذلك الإسراع في تنفيذ وتعزيز المصالحة بكلّ عناوينها دون إبطاء. وفي المقدمة منها الذهاب إلى شراكة سياسية حقيقية في الساحة الفلسطينية، وتطوير وتفعيل منظمة التحرير ومؤسساتها الوطنية.

خطاب أبو مازن بحاجة لآليات وورش عمل سياسية ووطنية، ومن دون ذلك يصبح خطابه «طائرة حديثة، غير قادرة على الإقلاع، لأنها من دون محركات.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى