الدراما بين الأسود والأبيض… فخّ الترويج لثقافة الدم السرد التاريخي في مواجهة التسطيح والابتذال
عبير حمدان
لم يأتِ المشهد الدرامي هذه السنة على قدر التوقّعات إلا في ما ندر من طروحات طرقت باب التاريخ في مكان، وأخرى لامست الواقع الآنيّ بشكل موجع. ويمكن الجزم أنّ السرد التاريخي ولو في إطار افتراضي للنصّ أتى منصفاً نسبياً. كما أنّ الإضاءة على الواقع المأزوم في إطار دراميّ تبدّى في عمل واحد وحسب، قابلته أعمال منها ما هو تقليدي ومكرّر ومنها ما هو غير منطقيّ واستعراضيّ، ومنها الإعلانيّ المرتكز على الأزياء والقصور والقصص الخيالية. ولا ننسى سياسة الأجزاء التي لا تقدّم شيئاً للمتلقّي إنما تدخل خانة الملل والحوارات الفارغة.
لا يمكن الفصل بين الفنّ بكافة قطاعاته وبين السياسة. ومخطئ من يظنّ أن الأعمال الدرامية تُنتَج بهدف الترفيه عن الناس وحسب. ويُضاف إلى ذلك العنصر التجاري الذي يعتمد الكمّية على حساب النوعية والنصّ.
ممّا تقدّم، يمكن الجزم أن المشكلة الحقيقية تكمن في انخفاض منسوب الوعي الثقافي وعدم التنبه لخطورة «الفنّ» في تدمير القيّم والمفاهيم من جهة، والتسويق للشخوص والأفكار الهدّامة كي تتغلغل في النفوس والعقول لتصبح الخيانة أمراً مشروعاً والقتل فعلاً طبيعياً والابتذال حرية شخصية.
ضدّان يتواجهان
حاول مركز بيروت منذ قرّر القيّمون عليه خوض غمار الإنتاج الدرامي أن يترجم واقعاً عملت الدعاية الإعلامية المأجورة على تهميشه. وكانت البداية مع «الغالبون» مع التأكيد على أنّ المركز يتبنّى رؤية فنّية محدّدة وموجّهة تعنيه بشكل مباشر، ولن ندخل في تفاصيل العمل الذي يحتمل النقاش. فهذا ليس موضوع بحثنا الآن. استمرّت مسيرة المركز من خلال عددٍ من الأعمال وصولاً إلى «بلاد العزّ» الذي يقدّم اليوم صورة منطقة بعلبك ـ الهرمل بشكل يدحض كل ما فعله جزء لا يُستهان به من الإعلام المشبوه على نشره ولصقه بالمنطقة وأهلها حيث جعلها تظهر كبؤرة للإجرام والخارجين عن القانون.
اليوم يأتي مسلسل «بلاد العزّ» ولو عبر قصة افتراضية إلا أنها مستمدة من حكايات حفظها أهالي البقاع عن ظهر قلب، وكانت أنيسة لياليهم الطويلة على ضوء قنديل الزيت، ومنهم من عاش تفاصيلها. والبيوت الترابية في تلك القرى لم يزل الطين فيها شاهداً على حضور أهل النخوة الذين يجيرون الضيف ويدافعون عن الشرف والأرض.
في المقابل، يقدم من يتبنّى الفكر الترفيهي في الإنتاج الدرامي مسلسل «الهيبة» ولو أن المقارنة بين رسالة العمل الأول والقصة المستوردة في العمل الثاني لا تجوز. إلا أن الجغرافيا المقصودة تحتّم علينا هذه المقارنة. و«الهيبة» هذه القرية الحدودية المفترضة بين لبنان وسورية لها قانونها الخاص، والرصاص لغة أهلها تحت مظلّة «الأصول والعادات» التي لا يفقه من كتب نصّ العمل أيّ منها. إنما هو يستند إلى تقارير متلفزة عن عشائر يقيمون في الكهف ويحكمون بالحديد والنار وتجارة الممنوعات ويقارعون الدولة التي لا تملك أيّ مقدرة على مواجهتهم. إلا أن صاحب هذا الطرح أسقط وعن عمد فرضية غياب الدولة عن منطقة برمّتها عندما يتّصل الأمر بالخدمات وأدنى مقوّمات العيش. العمل سطحيّ ويهلّل له الكثيرون، وهنا تكمن الخطورة في تمجيد صورة من يقول «نحن ما بنحكي نحن بنقوّص» ليتصاعد منطق تقديم صورة نمطية تتناول مجتمعاً كاملاً فقط لأن «البطل» ذو إطلالة بهية.
الفرق كبير بين الضدّين، والفرق يكمن في التعبير، حيث يقول قائد الثوّار «معين» عدي رعد للمحتل في «بلاد العزّ»: «نحن التاريخ… يا مستعمر وإذا انفك أسرك خبّر فرنسا عن بلاد الشمس، بلاد بعلبك الهرمل، وخبّرها عن جبل النار أرض جبل عامل وأرض الفداء والرسل فلسطين… وخبّرها عن الشام ستّ التاريخ… هي هويتنا يا معتدي». ليظهر أن الدراما يجب تحمل رسالة تدعو إلى بناء الوعي لمفهوم الهوية المقاوِمة لكل ما هو طارئ ومارق على فكرنا القومي.
فخ التسويق في «غرابيب»
يبدو لمن لا يعرف لغة الضادّ وما تختزنه من معاني مضمرة أن منح عنوان «غرابيب سود» لعمل تدّعي الجهة المنتجة له أنه يعرّي «داعش» ويدينه، توصيف جيد لهذا التنظيم الهجين. ومن هنا يبدأ فعل تقبّله والتصفيق للقناة التي تعرضه مع العلم المسبق أنّ سياستها لا تتعارض من أهداف التنظيم التدميرية. وفي العودة إلى المرادف الصحيح للعنوان فهو يعني «الجبال العالية التي تميل إلى السواد» لا الجمع لكلمة «غراب». إذاً المكتوب يُعرف من عنوانه. ليتم تقديم صورة أقلّ ما يُقال عنها إنها لا تشبه الدراما لا من قريب ولا من بعيد بشيء إنما هي عبارة عن مشاهد قتل شخوص لبعضهم مع الاستناد إلى عبارات دينية كمن يأخذ من الآية ما يريده ويخدم مصالحه.
واللافت أن جينريك العمل لا يتضمّن أسماء الممثلين القادمين من مختلف البلدان العربية. وفي السياق المشهدي لا وجود للمدينة والبشر الطبيعيين. ويكفي أن نرى لوحة السيارة التي تشير إلى المكان «الرقة». والسؤال البديهي: أين أهل هذه المدينة الفعليون؟ وهل باتوا كلّهم تحت سيطرة التنظيم وبطشه؟ ثم من يحارب هذا التنظيم ولماذا؟ وحين يسعى أيّ كاتب إلى نقل الواقع ألا يجب أن يقدّم لنا ولو حالة درامية بعيدة عن مفهوم «الحلال والحرام» وتدريب الأطفال على القتل؟
«شوق» والفرادة
يأتي مسلسل «شوق» حالة فردية هذه السنة، حيث يقدّم جزءاً من الواقع الذي يعيشه أهل الشام في ظلّ الأزمة القائمة، وتختصر حالة بطلته «شوق» نسرين طافش المرضية معاناة وطن خذله الكثيرون وتم تهشيم ذاكرته بشعارات واهية ووهمية. وفي مكان ما تبدىّ لمن يتاجر بمصائر البشر ويروّج للفكر التكفيري ولو بهدف ربحيّ يحصد الموت الرخيص. ولا تغيب عن كاتب العمل حازم سليمان الإضاءة على الجانب المظلم في الواقع السوري اليوم لناحية عمليات الخطف والقتل واتخاذ النساء سبايا، لتصبح «روز» سوزان نجم الدين الدكتورة المؤيدة لـ«الثورة» من السبايا.
نجحت رشا شربتجي في استفزاز العين والقلب من خلال مشهدية الأسر ومعاناة تلك النسوة اللواتي يدركن مصيرهن المحتوم وينتظرن الموت مرّة كي لا تنتهك كراماتهن ألف مرّة.
من هنا، يجب على المتلقي التمييز بين فخّ الترويج لـ«الغرابيب» وفعل الإضاءة على إجرامهم من دون منحهم صفة لا تشبههم، وتمرير عبارتهم «باقية وتتمدّد» في عمل تقدّمه شاشة عربية لديها جمهور عريض.
سقطة الأجزاء
هذه السنة أيضاً، تسيطر «الحدّوتة» المتكرّرة على المشهد الدرامي ويسقط معظم «النجوم» في حفرة الأجزاء التي لا تضيف شيئاً إلى رصيدهم. حيث تستمرّ الحوادث اللامنطقية مع «طوق البنات» في جزئه الرابع. ويصرّ بسام الملا على مواصلة التسطيح من خلال «باب الحارة» في جزئه التاسع.
وفي المقلب الدرامي اللبناني يدخل المنتجون لعبة الأجزاء بشكل رديء من خلال «وين كنتي 2» مع تبرير فكرة الخيانة. وهم يعلمون أن القصة مقتبسة من عمل تركيّ مدبلج حمل عنوان «العشق الممنوع». لكنهم يرفضون الإقرار بذلك. ولا ننسى «زوجتي أنا 2» الذي يدور في حلقة مفرغة من أيّ مضمون. ولعلّ الهدف الحقيقيّ لهذه الأعمال ترويجي سياحي للترف اللبناني وما يتبعه من عروض الأزياء المجانية.
من الصعب أن نتناول كل الإنتاجات الدرامية في مقال واحد، ولكن من الجيد المحاولة ولو بلمحة سريعة تتضمّن فعل المقارنة بين الأسود والأبيض لندعو كل من يهمه الأمر لأن يعيد القراءة بتأنٍّ ليدرك أهمية الحفاظ على الفنّ الجاد من خلال الوعي والثقافة، في ظل الصراع القائم الذي يُعتبَر الإعلام من أهم أدواته القادرة على الفتك وقلب الموازيين.