مختصر مفيد روسيا لاعب استراتيجي وأميركا لاعب تكتيكي
خلال السنوات التي مضت من هذا القرن بدأ الصعود الروسي مع رئيس مخضرم صاحب خبرة ورؤية هو الرئيس فلاديمير بوتين، تسنّى لكل متابع التوقف أمام مقارنة السياسات التي تتبعها الدول الكبرى كروسيا وأميركا من استراتيجيات تبنى على فهم عميق للمصالح والأولويات والتعقيدات والخصوم والساحات والموارد والمقدرات. وقد صار ممكناً الحكم على حصيلة مقارنة الموقعين الروسي والأميركي، مع تسليم مسبق لدى الروس بأن الأميركيين لا يزالون أصحاب الموارد الأكبر واليد الطولى، فهل تناسبت حصيلة النجاح والفشل مع توازن القدرات؟
قيمة المقارنة أن تجري في ساحة نزال يلتقي الروس والأميركيون على اعتبارها النقطة المركزية في سياساتهم وحساب مصالحهم. وهذا لم يحدث بمثل ما حدث في سورية، فقد جعل الرؤساء جورج دبليو بوش وباراك اوباما ودونالد ترامب من الموقف من سورية محوراً رئيسياً لسياساتهم، وكتبت الوثائق الأميركية الكثير عن الجغرافيا السياسية التي تمثلها سورية في الحرب على العراق والفوز بها بداية، إلى الربيع العربي وجعله بداية شرق أوسط جديد من جهة ثانية، وبينهما في حرب تموز مكانة سورية كداعم للمقاومة، ووصلا لسورية الحرب التي استنزفت ولايتي الرئيس أوباما وورث مكانتها الرئيس ترامب. ففي سورية تحاصَر روسيا وتسقط إيران، وفقاً لما قاله كلاهما. وبالنسبة لروسيا لم تضع البوصلة على الأقل بدا واضحاً أنها أدركت كم تشكل هذه الحرب، الطريق لرسم التوازنات والمعادلات على حدودها وأحجام القوى والأدوار، وصولاً لمستقبل الإرهاب كخطر داهم يتجذر هناك ويبني أوكاراً ويهدّد مستقبل الأمن في روسيا، انتهاءً بما قاله الرئيس بوتين عن عالم جديد سيولد من رحم الحرب في سورية في عهدي الرئيسين أوباما وترامب.
تقابلت في سورية الخطط والإرادات والموارد والمقدرات، وتقابل السلاح والحلفاء. والمتقابلون من الضفتين السوريتين الدولة الوطنية ومعارضوها بكل صنوفهم وألوانهم ومن معهم ومن وراءهم. والأكيد أن لا مجال للمقارنة بحجم ما رصدت واشنطن وما حشدت وما امتلكت من تحالفات امتدت من مال السعودية ومخابرات إسرائيل وجيش تركيا والدبلوماسية الأوروبية ومقاتلي القاعدة، مقابل حلف يضم روسيا والصين ودول البريكس في السياسة، وحلف ميداني يضمّ روسيا وإيران والدولة السورية وقوى المقاومة، ولا يستدعي الأمر بحثاً طويلاً للاستخلاص أنه بمعيار مواجهة السياسات والإرادات، فإن روسيا تربح وأميركا تخسر. هذا ما تقوله الجغرافيا التي تتغيّر لصالح الدولة السورية وحلفائها، وتغيّر العناوين بتقدم عنوان الحرب على الإرهاب على شعار إسقاط النظام. وهو فوز لشعار الحرب الذي رفعته الدولتان الروسية والسورية وحلفاؤهما مقابل الشعار الذي رفعته واشنطن وحلفاؤها. ومما يقوله مصير كل من الحلفين بين حلف روسيا الذي يزداد تماسكاً والحلف الذي تقوده واشنطن وما يصيبه من تفكّك.
النتائج التي باتت حاسمة لتحديد رابح وخاسر في هذه المواجهة، تطرح حكماً أسرار القوة الروسية والضعف الأميركي، وهي ليست أسباباً مادية، تتصل بالقدرات وبالموارد، وكذلك لا تتصل بحجم الحلفاء، بل بالقيم والمبادئ والإرادات والرؤى، فما تدافع عنه روسيا عادل وقادر على إشعار شعبها وجيشها أن لهما فيه قضية وقادراً على شحذ همم مَن يقاتلون من حلفاء لنصر يريدونه يرتبط بوجودهم، بينما على الضفة المقابلة غموض الأهداف والمصالح المخفية جعل الشعارات في حال تناقض مع الهياكل التي تحملها، فكيف تستقيم ديمقراطية برعاية سعودية ووطنية برعاية إسرائيلية ومدنية في ظلال القاعدة، والنفاق الذي بدأت به الحرب صار نفاقاً بين حلفاء الحرب وتالياً مكائد ومؤامرات متبادلة بقوة الفشل والبحث عمن يسدّد فواتير الهزائم.
الاستراتيجية التي لا تنسجم مع القيم الإنسانية السامية في عمقها محكومة بالفشل، عندما تجد استراتيجية مقابلة تلتقي مع هذه القيم، ولو كانت مواردها أقل بكثير. هذا مفهوم الفارق بين استراتيجية تستحق الكلمة وأخرى تحملها بلا معنى وليست سوى مجموعة تكتيكات تمّ لصقها بالمياومة لتحقيق أهداف صغيرة تتراكم لتكشف عند تحقيقها الهدف الكبير المخفيّ المسمّى استراتيجية وهو لكل حليف نوع ولون مختلف..
ناصر قنديل
ينشر هذا المقال بالتزامن مع الزميلتين «الشروق» التونسية و«الثورة» السورية.