الرفيق عبد الرحمن بشناتي: لا نخلّ بالقسم ولا نخون كلاماً نعطيه

من الرفقاء الذين كانوا أوفياء لإيمانهم، ومن حقهم على الحزب أن يكون وفياً لذكراهم، يبرز الرفيق عبد الرحمن بشناتي كمثل صارخ، ونموذج للمناضل القومي الاجتماعي الذي لم يعرف تراجعاً ولا تخاذلاً ولم تثنه آلام الصراع الطويل عن الاستمرار أكثر صلابة وأشد تصميماً على متابعة الطريق.

عنه تحدث الأمينان جبران جرzيج وابرهيم يموت في مذكراتهما، واثنيا على صلابة إيمانه ومضاء عزيمته والتزامه الصادق.

في الجزء الرابع من مجلده «من الجعبة» يقول الأمين جبران جريج، في معرض الحديث عن جريدة «النهضة» التي كانت باشرت الصدور في 14/10/1937 وتوقفت في17/5/1938 «لن أنسى أيضاً رفقاء الإدارة التنفيذيين: عبد الرحمن عكاوي، عبد الحميد شوشاني، شحادة رزق الله موزع الجريدة على المشتركين 1 وعبد الرحمن بشناتي الموزع الثاني المساعد، وبخاصة مندوب الجريدة المتجول الأمين عجاج المهتار الذي رافقها من يوم صدورها إلى يوم تعطيلها».

يتبيّن من ذلك أن الرفيق بشناتي كان رفيقاً في ذلك الوقت. معلومات ابنه الرفيق فادي تفيد أنه انتمى في الفترة 1936-1937 في مديرية جبل النار البسطة التي كان لها شأن في النضال القومي الاجتماعي وكان من أعضائها الرفقاء محمد شامل الفنان المعروف فيما بعد ، رضا كبريت الأمين ، حسين الشيخ مطلق النار على يوسف شربل ومحيي الدين كريدية أحد أبطال الحزب .

في اكثر من مكان في «الحصاد المر» يشير الأمين ابراهيم يموت إلى الرفيق بشناتي، ولعل ما يقوله في الصفحة 64 يوجز الكثير مما يصح أن يحكى عن الرفيق المذكور.

«يحضرني مثال عما استطاع الحزب عمله في بناء أعضائه. عبد الرحمن بشناتي يعرفه الكثير من القوميين الاجتماعيين القدماء في بيروت. بدأ حياته بائع خضار على عربة في أسواق بيروت، كان شبه أمي، ولكن ما إن انتسب إلى الحزب حتى فتحت أمامه سبل المعرفة والثقافة ولم تعرقل سبيله أوضاعه المادية أو الاجتماعية، وبجدّه ونشاطه، وبدافع من العقيدة استطاع أن يتفهّم مبادئ الحزب ويناظر في العقيدة خيرة المثقفين، منهم سعيد تقي الدين الأديب القومي المعروف الذي كان معجباً بعبد الرحمن، لا تعوزه الصراحة ولا الصلابة فكان قومياً اجتماعياً مثالياً في شخصه وفي عائلته، وتحمّل بصبر وصفاء نفس عذاب السجون والمعتقلات وظلّ محافظاً على إيمانه حتى آخر نسمة من حياته».

«عبد الرحمن رافقني في الرحلة الحزبية منذ عام 1939 حين كان يكلّف بتوزيع المناشير الحزبية المناهضة للفرنسيين، ورافقني في رحلات السجون والمعتقلات، وكان في المرحلة الأخيرة ملحقاً بمكتبي في طيران الشرق الأوسط خلال ما يزيد على العشرين عاماً إلى حين وفاته».

يروي الرفيق فادي بشناتي عن والده ما يلي:

ـ في أواخر الثلاثينات وفي المحكمة، سأله القاضي وقد اصدر بحقه قراره بالسجن 6 أشهر، عما يريد قوله، فأجابه بلهجته البيروتية البسطاوية: «قبلت… قبلت، فلتسقط فرنسا».

ـ في العام 1940 كان في معتقل «المية ومية» عندما بلغه خبر وفاة والده، المسؤولون الحزبيون في المعتقل طالبوا بأن يؤذن له بالخروج لحضور المأتم والعودة إليه، أذن له ورافقه اثنان من الجنود.

عند وصولهم إلى بيروت لم يجد الرفيق عبد الرحمن مناسباً أن يرافقه الجنديان، مخفوراً لحضور المأتم، فطلب إليهما أن يأذنا له بالتوجه وحيداً على أن يعود إليهما في موعد ومكان محددين.

– كيف ذلك ؟ سألاه.

نحن القوميين أقسمنا بشرفنا ومعتقدنا ولا نخلّ بالقسم ولا نخون كلاماً نعطيه.

فتمّ له ذلك.

حاول الأهل والجيران أن يثنوه عن العودة إلى موعده مع الجنديين: «نساعدك في الهرب، مجنون؟» رفض، وأبى إلا أن يعود إلى حيث ينتظره الجنديان ليرافقهما عائداً إلى معتقله».

ـ كان مكلفاً بتوزيع المساعدات إلى أسر الرفقاء الشهداء أو المعتقلين، ولأنه كان معدماً والحزب في حالة عوز مالي، كما دائماً، فكان يتوجه إلى صيدا سيراً على الأقدام فيسلم المبالغ المؤتمن عليها ويعود إلى بيروت كما غادرها.

نقلاً عن الأمين إنعام رعد: كان الرفيق عبد الرحمن من الرفقاء في مركز الحزب مولجاً بتنظيم دخول الرفقاء لمقابلة حضرة الزعيم، وكان بتصرفاته ونظاميته، قد اكتسب محبة سعاده وتقديره، وكان يعتبر من الرفقاء المقرّبين إلى قلبه.

ـ في حوادث العام 1958، تعرّض كالمئات من رفقائه في بيروت إلى مضايقات «المقاومة الشعبية»، فهوجم منزله في رأس النبع حيث كان يقيم، ما اضطره للانتقال وعائلته إلى منطقة الحدث، ليستقر فيها إلى أن وافاه الأجل.

الرفيق عبد الرحمن بشناتي بالتزامه وإيمانه ونضاله هو النموذج الحي لعدد من الرفقاء الذين عرفوا النضال القومي الاجتماعي مثالية تتجسد كل يوم، عطاء ونظامية وتضحية.

في ظل الملاحقات والمداهمات والتحقيقات والأحكام بالسجن لم يتراجعوا ولم يهادنوا، بل على العكس فقد اندفعوا أكثر في التحدي والمواجهة غير هيّابين ولا وجلين، قدوتهم سعاده في المحكمة وخارجها وفي كل مواقفه، ولعل في الحادثة التالية التي يرويها الأمين جبران جريج في الجزء الرابع من مجلده «من الجعبة» ما يلقي ضوءاً على مواقف التحدي حيث لم يكن القومي الاجتماعي يهاب الاعتقال ولا التحقيق ولا السجون.

«لمناسبة أول آذار 1939 طبعت منفذية بيروت كان الأمين جريج منفذها العام بِاسم مستعار: إحسان سالم كراساً من عشر صفحات يتضمن ملخصاً لسيرة الزعيم ولمسيرة الحزب خلال السنوات بعد انكشاف أمره. وجرى توزيعه حسب الخطة الموضوعة في المحلات التجارية، من تحت الباب، أما في البيوت فبالطرق على الأبواب وتسليم الكراس لمن يُقبل على فتحها. وزعت الكمية كلها حسب الخطة المرسومة ولم تنتبه السلطة لتوزيع الكراس إلا بعد الانتهاء من توزيعه وهكذا لم تستطع القبض على أحد البتة».

«عضو واحد خالف التعليمات هو الرفيق الأمين في ما بعد شكيب أبو مصلح 2 ، جرى ذلك وهو في مكان عمل الرفيق فهد حريق الخياط الرجالي المعروف وكان يملك محلاً في جوار سينما أوبرا، ساحة الشهداء الذي كان يتحدث مع الرفيق شحادة رزق الله عن مكتب التحريات ورئيسه القاضي فرنان أرسانيوس، وعن التصرفات الشاذة التي كان يتصف بها هذا المكتب تجاه الحزب وهو أنشئ خصيصاً لمتابعته. فدبّت الحميّة في أوصال الرفيق أبو مصلح فقرر أن يتحدى القاضي أرسانيوس بتسليمه شخصياً نسخة من الكراس عيدية بمناسبة الاحتفاء بأول آذار».

«اصطحب الرفيق شكيب الرفيق شحاده رزق الله الذي يعرف مكان منزل أرسانيوس، إلا أنه ما إن وصلا إليه حتى التبس عليهما المنزل لوجوده بين عدة منازل أخرى فاستدلا إليه بواسطة أحدهم التقياه هناك ورافقهما إليه. صعد الرفيق أبو مصلح الدرج ورنّ الجرس فانفتح الباب وإذا به وجهاً لوجه مع أحدهم يسأله ماذا يريد، في هذه اللحظة لمح الرفيق شكيب القاضي أرسانيوس جالساً على إحدى الأرائك يتبادل الحديث مع أحد الساهرين، فأجاب السائل وهو يدخل القاعة: أريد أن أقدم هذه الهدية إلى حضرة الأستاذ أرسانيوس بمناسبة عيد أول آذار عيد مولد زعيم الحزب السوري القومي الاجتماعي، وسلّمه الكراس يداً بيد وسط دهشة وذهول امتدتا دقائق تمكن خلالها الرفيق ابو مصلح من الانسحاب خارج المنزل، انما ليتم القبض عليه في ما بعد».

«كان نصيب الرفيق شكيب من هذا العمل صدور الحكم عليه بحبسه مدة شهر كامل. أما حزبياً فقد وجهت إليه التهنئة، مع قرار فصل لمدة شهر أيضاً لارتكابه مخالفة نظامية. انتهت مدة الشهر مع انتهاء مدة محكوميته».

هذا العمل الجريء للأمين شكيب أبو مصلح لم يكن غريباً عن رفقاء بيروت، ولا عن الرفيق عبد الرحمن بشناتي في مختلف مراحل نضاله القومي الاجتماعي، الصامت، البعيد عن الضوضاء، المتخذ من سعاده قدوة حيّة يجسدها في التزامه الحزبي الصادق.

ونحن إذا كنا نتكلم عن الرفيق عبد الرحمن بشناتي فإننا لا نغفل عدداً من الرفقاء الذين، مثله، كانوا باعة خضار أو يانصيب، أو موزعي صحف، إلا أنهم تدرجوا في مدرسة الحياة فكانت لهم صولات لافتة في النضال القومي الاجتماعي، إذاعة شعبية، وتعرّضاً للسجون، وإيماناً لا يعرف اليأس، وأني لا أنسى الرفيق الرائع محمد علي أسعد أبو سعاده الذي يعرفه الكثيرون من القوميين الاجتماعيين، ويعرفون أي عائلة أسّس، وكم كان صادقاً، مخلصاً، مؤمناً، وكم كان الحزب حديثه الدائم وهاجسه المستمر.

بهؤلاء، خرج الحزب ليغيّر وجه التاريخ في أمته، وبهم، وبكل مؤمن صادق يستمر وينتصر.

معلومات

من كتاب «الحصاد المر» للأمين ابراهيم يموت، المعلومات التالية:

ـ الصفحة 80: في غرفة النظارة، التقيتُ القومي عبد الرحمن عكاوي وهو من القدامى المناضلين بصمت وصوفية لا يكاد يرتفع له صوت أو شكوى. كان يعمل في مجال المطبوعات وإدارتها، يعيش حياة خاصة لا يعرف عنها سوى حياة تقشف وفاقة. قضيت ليلتي في غرفة النظارة قبل أن أنقل إلى سجن القلعة العسكري في بيروت.

صباح الاثنين في التاسع من أيلول 1940 نقلتني سيارة الأمن العام مكبلاً إلى سجن القلعة. التقيت هناك بكامل أبو كامل الذي كان سبقني، وجبران جريج وخضر سلام وفكتور أسعد حنا وعبد الرحمن بشناتي وبقية الرفقاء الذين يبلغ عددهم حوالي الثلاثين.

ـ الصفحة 105: تألفت في معتقل المية ومية شركة لغسيل الثياب، وكيّها، وللاستحمام بالماء الساخن صاحباها عبد الرحمن بشناتي وعيسى حماده.

ـ الصفحة 111: في الحادي عشر من أيلول خرجت دفعة من القوميين بلغت الأربعة عشر، بينهم حسين منصور الوزير والنائب، صاحب بنك بيروت الرياض وعجاج المهتار الشاعر، الأمين وعبد الرحمن بشناتي.

ـ الصفحة 389: من المحاولات التي جرت لبحث الخلاف بين المسؤولين الحزبيين كانت مقابلة جرت في منزلي يوم الجمعة في 10/12/1971 مع عبدالله محسن وهو رئيس سابق للحزب وللمجلس الأعلى. وكانت صداقتي له تعود إلى أوائل الأربعينات. دخلنا السجن معاً ثم كنت وكيلاً لعميد المالية وهو العميد يوم عودة سعاده عام 1947. رتّب الموعد عبد الرحمن بشناتي القومي الاجتماعي المؤمن الذي وإن كانت تنقصه الثقافة المدرسية فقد تعلّم في مدرسة الحياة القومية وأصبح، وهو بائع الخضار السابق، من أصفى المبشرين بالعقيدة.

ـ الصفحة 393: وفي حلقة الاتصالات الحزبية زارني يوم السبت 11/12/1971 في منزلي: المحامي الأمين عبدالله قبرصي وبرفقته عبد الرحمن بشناتي الذي سعى إلى ترتيب ذلك الاجتماع.

ومن يوميات جورج عبد المسيح الصفحة 376:

ـ حاولت أن أكتب في يومياتي هذه ولو مرة عن سعيد تقي الدين. لقد أصبح بعد دخوله الحزب مدفوعاً بإعجابه بعبد الرحمن بشناتي وأمثاله من الرفقاء الذين فنيت الظلامات تنزل بهم وهم يزيدون تبلوراً وإشعاعاً.

وفاته:

قضى الرفيق عبد الرحمن بشناتي في 6/8/1973 اثر سكتة قلبية. وبتاريخ 11 آب 1973 نشرت «البناء» الخبر التالي:

«خسر الحزب منذ أيام أحد قدامى المناضلين الرفيق عبد الرحمن بشناتي الذي فارق الحياة اثر نوبة قلبية مفاجئة. اعتنق الرفيق بشناتي المبادئ السورية القومية الاجتماعية في الثلاثينات فجعلها شعاراً لبيته، وكان من الرفقاء العاملين منذ انتمائه فلم يهدأ لحظة إن في الاجتماعات أو في التبشير أو في التنفيذ في أي ميدان من ميادين الصراع التي دعي إليها.

كان أباً مسؤولاً مسؤولية كلية عن عائلة جعلها سورية قومية اجتماعية وبقي يعمل لها وللقضية التي اعتنقها حتى آخر رمق من أنفاسه.

كان حاملاً لواء المحبة القومية الاجتماعية في جميع الظروف التي اجتازها الحزب وكان الجندي المجهول الذي يعمل بصمت وإيمان وبطولة.

وقد ودعه عدد من المسؤولين المركزيين والرفقاء إلى مثواه الأخير حيث ووري الثرى مأسوفاً عليه».

بطاقة هوية

ـ والده: رمضان بشناتي.

ـ والدته: عائشة مجذوب.

ـ مواليد العام 1912.

ـ اقترن من السيدة أميرة مكاوي

ـ عمل موزعاً في جريدة «النهضة»، وفي طيران الشرق الأوسط.

ـ أولاده: سوريانا، هادي، غادة، الرفيق فادي، غنى.

ـ توفي على إثر سكتة قلبية في 6/8/1973.

هوامش

1 والد الرفيق قيصر، من بلدة زبوغا، المتن الشمالي، وكان تولى مسؤولية مدير مديرية ديك المحدي وبقي حتى آخر لحظة من حياته مؤمناً ملتزماً مناضلاً.

2 شكيب أبو مصلح: مراجعة النبذة المعمّمة عنه بتاريخ 14/02/2014 على الموقع التالي: www.ssnp.info

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى