ممدوح رحمون… وبوليصة التأمين
معن بشور
صاحب هامة مرفوعة دائماً لم تعرف الانحناء لغير الله، وصاحب همّة عالية لم تستطع السنوات والعقود أن تصيبها بالفتور، وصاحب خلق رفيع عصي على كل ترغيب وترهيب، وحين كنا نفاجأ به في ندوة أو مؤتمر أو لقاء أو مخيم شبابي، في مناطق لبنانية نائية، أو في أقطار عربية بعيدة، ونسأله: «ما الذي جاء بك إلى هنا؟» كان يجيب ضاحكاً من خلف شاربين معكوفين كرجال الأحياء في دمشق: «لا تنسى أني ابن حي الميدان».
كم كان معتزاً «بميدانيته» الجغرافية والتاريخية، وكم كان معتزاً بوطنيته السورية العابرة للعصبيات بكل أنواعها، وبحكايات أبطالها ضد كل غازٍ أو مستعمر، وكم كان معتزاً بقوميته العربية ورمزها جمال عبد الناصر وبحركتها الجامعة لكل مكونات الأمة، كيف لا؟ وقد انطلقت من «الميدان» الدمشقي حركة البعث العربي برسالتها الخالدة التي كان ممدوح رحمون يصرّ وهو «الناصري» العارف بأسرار البدايات، أنها الإسلام.
كم كان معتزاً بإيمانه الإسلامي مصراً في كل جلساته على أن الايمان بالإسلام لا يكتمل إلا بالإيمان بكل الرسالات والرسل، وأن العروبة كانت الفضاء الذي جسّد قيم الإسلام وانفتاحه على باقي الأديان، كما قال مرة سماحة الإمام الراحل السيد محمد حسين فضل الله.
مؤرخ شفوي بامتياز، وإن سجّل بعض تاريخه في كتابه «محطات في الحياة»، فكنوز معلوماته عن السياسة العربية في العقود الستة ونيّف الأخيرة تفيض في كل جلسة معه، فلا تغادره إلا وفي داخلك شوق إلى المزيد.
كنت أسأله ما الذي جاء بك من «الاتحاد القومي» والنضال ضد الانفصال المشؤوم إلى عالم التأمين وإعادة التأمين؟ ـ وقد تبوأ رحمون رئاسة اتحاد شركاته لسنوات ـ كان يجيب بابتسامته الوديعة المعهودة: «كنت أبحث عن بوليصة تأمين للعرب… فلم أجد أفضل من الوحدة العربية، وكنت أفتش عن بوليصة إعادة تأمين للإنسان العربي فلم أجد أثمن من الحرية والعدالة، وكنت أبحث عن بوليصة تأمين وإعادة تأمين للكرامة العربية فلم أجد أكرم من الجهاد في فلسطين والعمل من أجل القدس».
لقد أقعدَ ممدوحَ مرضُ فتك به متزامناً مع محنة فتكت بسورية، وكان في كل لقاءاته حول ما يجري في بلده يقول: «احذروا الأجندات المشبوهة تستغل المطالب المشروعة». وكان يغتاظ حين يرى علماً غير علم الوحدة، العلم الرسمي، مرفوعاً في السماء السورية.
ورحل ممدوح فيما طائرات التحالف الأميركي تقصف في العمق، فتوقف القلب الكبير عن الخفقان محذراً من استباحة سورية والعراق، ومن استخدام الإرهاب ذريعة لتدمير الأوطان فوق كل ما لحق بها من دمار.
لقد اختار القدر لأبي سحر أن يكون رحيله في اليوم ذاته الذي رحل فيه القائد خالد الذكر جمال عبد الناصر «28 أيلول» لتأكيد عمق الصلة بين ابن دمشق وزعيم مصر والأمة.