صوفيةٌ مستغاثةٌ في أبيات الشاعرة سناء البنا
رنا صادق
الصوفية الفلسفية ترقص على أنغام أبيات قصائدها، هي التي تجيب عن الأسئلة التي في ذهنها حول العدم والوجود، الحياة والموت. يحمل شِعرها أسمى المعاني، وأرقى الكلمات، تتأرجح قصائدها ما بين الصوفية والفلسفة، من رقيّها شعراً يختزل بكلماتها تنشر في كل أرجائه عبق إحساسها العالي بالوجود واللاوعي الحقيقي.
ابنة المتن الشاعرة سناء البنا تعتبر من إحدى النساء اللواتي يكافحن من أجل ترك بصمة نسائية عربية مميزة، وتصل بذلك إلى أعلى المستويات وترفع اسم بلادها فوق السحاب. تعبق رائحة الحرب والدمار في طفولة البنا ومراهقتها، فالحروب تركت لديها اتجاهات نحو الأسئلة المحيّرة وصراع الخير مع الشر، الحياة والموت الوجود والعدم. ترعرعت في المتن الأعلى جبل لبنان في قرية ريفية حافظت على المفهوم القروي بجماليته الانسانية والبيئية.
الشعر الصوفي الذي تقدّمه الشاعرة هو فيضٌ عن رؤية وجودية للكون أكثر من كونه رغبةً إبداعية شعرية جديدة. وهي بذلك تشكّل قطيعة رؤيوية مع الشعرية العربية عن الواقع الحسّي، واتخاذها عالمَ الخيال منطلقاً لها، غير أنها لم تفعل ذلك دائماً على صعيد الكتابة الإبداعية.
عالم الخيال هذا برزخ بين ما هو حسّيّ وما هو معنوي، وقد لا يعني عند معظم الشعراء الصوفيين، سوى تحميل الأشعار الحسّية دلالات معنوية قد لا تؤثر في خيال الشاعر، ولا في صوغ الفنّي لا من قريب ولا من بعيد. بل معظم قصائدها ليست أكثر من اقتباسات ومحاكاة شبه حرفية لأشعار الآخرين.
خلال لقاء «البناء» معها، تطرّقت البنا إلى سبب رغبتها في الكتابة الشعرية الصوفية، كما انتقلت إلى مواضيع الشعر عموماً والفنّ خصوصاً، ووضع المرأة العربية اليوم في محيطها.
في هذا الصدد، تشير إلى أنه لا بدّ من مساحات تأمّلية تتناسب مع طبيعة الحياة، ولو كانت شطحات خيالية فلسفية وفكرية بثوب شعري جميل، من خلال لغة رصينة وعميقة تسقط رتابة الفلسفة، في حركة موسيقية وإيقاع داخلي، فالشعر يكون إضافة تنمّق الفلسفة وتضفي بعض الليونة على ما يعتريها من جفاف لتكون مستساغة لدى المتلقّي.
وتتمحور مواضيع قصائدها بتنوّع حول الإنسان والوطن والانتماء، يأخذ الحبّ مكانة معيّنةً، وغالباً ما يكون طرحاً فلسفياً ذا لغة وطابع صوفيين.
لم يكن توجّه البنا مقصوداً نحو الصوفية بل كان انحيازاً عفوياً، هو بالتالي أسلوب في التعبير عن الذات، نتاج تراكم قراءات وثقافات ومدارك مكتسبة وروحانية متكدّسة في اللاوعي. فالشاعر لا يمكن أن يصنع قصيدته، بل يبدعها حين تفرض نفسها عليه، وتلحّ لتشكّل أسلوبها كما ترى البنا. فهي شخصياً تترك نفسها بحرّيةً لمشاعرها التي تنسكب بإسقاط اللاواعي.
للصوفية مميزات كثيرة متعارفة، وقد عالجها كثيرون من المفكّرين والفلاسفة لدرجة أن أصبحت عدّة طرق ومدارس، لكنها تبقى من أنماط الإرتقاء بالنفس للاقتراب من الخالق. لها ركائز روحانية على درجة عالية من الزهد والانعتاق وإنكار الذات. مع الإشارة إلى أنّ البنا لا تمارس الصوفية كنهج يوميّ حياتيّ، بل يبقى الجوهر الشعري بارزاً مع إظهار أهمية الصدق مع الجوهر الروحي للنفس.
ولدى سؤالها عن كيفية مزجها بين جمالية الشعر وبرودة الفلسفة، تجيب: لا يمكن فصل الشعر عن بقية العلوم الإنسانية ومنها الفلسفة. فهو فرع من فروع المنطق، والمنطق ابن السؤال الفلسفي باعتقادي أن الوجودية والمعاصرة التي يعيشها الانسان في واقعه المرهق، باتت تضني وتتعب نفسه وتربكها، فمن هنا، كان لا بدّ من مساحات تأملية تتناسب مع طبيعة الحياة، ولو كانت شطحات خيالية وفلسفية وفكرية بثوب شعري جميل من خلال لغة رصينة وعميقة تسقط رتابة الفلسفة في حركة موسيقية وإيقاع داخلي. إذ يكون الشعر إضافةً تنمّق الفلسفة وتضفي بعض الليونة على ما يعتريها من جفاف لتكون مستساغة لدى المتلقّي.
في السياق الشخصي، تجربة البنا مع الحياة لها دور في توجهاتها الشعرية، باعتبارها أن الشاعر ابن الحياة ومخاضها منبثق عن بيئته وثقافتها، لا يمكن أن ينفصل مهما ابتعد. يبقى هو ذلك المزيج من التربية الوجودية، التي تحيط به لتشكّل أفكاره وتقولبه مدعوماً بالمعرفة المكتسبة والقراءات. كانت حياتها بين الأديرة وأسرة «مسلمة» متديّنة، عايشتُ الأسئلة الكبرى وقرأت الإنجيل والقرآن، وصلّيت في الكنيسة والخلوة والمسجد.
في ما يتّصل بوضع المرأة المعاصرة في هذه الأيام، قالت البنا: هي بحال أفضل ممّا كانت عليه في بدايات القرن الماضي وما قبل، لكنها لا تزل في وضع صعب. فهي ليست بخير كما يجب أن تكون عليه، رغم أننا نشهد الحضور النسائي العارم في جميع المجالات والحقول العلمية والأدبية والإبداعية، إلا أنها ما زلت مضطهدة من قبل المجتمع والسلطة الذكوريين في المنزل وخارجه. إذ يجب عليها الخضوع للأعراف والتقاليد، ومستكرهة على كثير من الأمور الحياتية في عيشها اليومي. ناهيك عمّا تتعرّض له من عنف وقسوة في الحياة الأسَرية أحياناً بسبب سوء المعاملة الجسدية والمعنوية، وكذلك ما تلاقيه في حياة التشرّد التي فرضته عليها الظروف السياسية والحروب. المرأة ضحية هذا الوجود، نتطلّع كنساء مثقفات نملك ناصية البيان أن تتخلّص المرأة من معاناتها لتنطلق لمستقبل أفضل وغد واعد وحياة مشرقة.
كما أنّ البنا تحاكي في القصائد دور الرجل تجاه المرأة، وأساسيات هذا الدور كفاعل أساس في حياة المرأة، لكنّها تشدّد على إعطائه الحرية اللازمة المتساوية به على كافة الأصعدة، وتحارب بشراسة عندما يكون اضطهاد المرأة العنوان الأساس.
وعن ديوانها الأول «آدم وتاء الغواية»، تقول: هو كناية عن قصائد متراكمة من مراحل عمرية مختلفة جمعتها وسمّيتها «آدم وتاء الغواية». وكما يوحي العنوان كانت معظمها بين العاطفية والوجدانية تحاكي ألغازاً وجودية عالقة بين الجنسين، عبرت في ذاكرة المرأة الخائفة من اضطراب الواقع مع الحلم المتخيل، وفيه طروحات تخطر في بال كل أنثى تدرك أهميتها الغائبة في مجتمع ذكوري، يحترف الجسد كمصدر متعة بمعزل عن شغف الروح بعوالم الأنثى الشاسعة، كأنها مصدر إمتاع وإنجاب.
وأخيراً، ترى البنا أنه على رغم الأوضاع السياسية والأمنية المحبطة، فالحانات والمقاهي اللبنانية تحوّلت إلى منتديات تستقبل الشعراء والمتذوّقين في ظاهرة تبشّر بالخير، وكأن النوادي الليلية تحولّت إلى مراكز ثقافية. لكن حال الشعراء كحال أيّ مواطن، أصابتهم العروبة بمقتل ورغم ذلك يستمرّون.
يُذكر أنّ الديوان الأخير للشاعر سناء البنا، حمل عنوان «رسائل إلى مولانا»، وهو يلقى رواجاً كبيراً وسط متذوّقي الشعر لا سيما الصوفي. وكانت «البناء» قد نشرت أكثر من دراسة حوله.