الثابت والمتحرّك في القانون النسبي للانتخابات في لبنان
د. رائد المصري
لا نستطيع إلاَّ أن نُكيل المدْح والتقدير لهذه الطبقة السياسية المترهِّلة، إزاء إقرارها قانون انتخابي نسبي وفق خمس عشرة دائرة مع الصوت التفضيلي على مستوى القضاء. قانون تمَّ إقراره في اللحظات الأخيرة من دخول البلاد كلِّ البلاد في فراغ مؤسسي، وهو ما خفَّف من وهْج قوة الاعتراض على إقرار هذا القانون الانتخابي المخْصِي، والذي لا يَليق بحجم تضحيات اللبنانيين وإنجازاتهم وصبرهم على أداء الطبقة السياسية، بدءاً من التوريث السياسي وليس انتهاء بصفقات المشاريع وسمسراتها للاستحواذ على المال العام وتجييره في حملاتهم الانتخابية المقبلة في أيار عام 2018، أيّ بعد عام تقريباً. وهذا كفيل بدوره لإعادة تموضع واستجماع قواها، ورصّ الصفوف المقرونة بالخطابات الشعبوية والاصطفافات المذهبية والطائفية والتحشيد من أجلها، وهو ما يُنافي بالطبع سياقات ومندرجات العمل بالقانون النسبي العصري الذي يُعطي البُعد الوطني لهذا الاستحقاق الانتخابي المهم.
وَجَبَ القول إنّ هناك ما هو ثابت في معادلات السياسة اللبنانية، لا يجب التفريط به مهما كلَّف الأمر خشية من رهانات إقليمية تقوم بها بعض الأطراف السياسية التي امتهنت هذه الأفعال، لتنقلب بين ليلة وضحاها على كلِّ مندرجات التوافق الوطني، ومن ضمن سياقاتها الحفاظ على المقاومة وإنجازاتها. وهو الأمر الذي لا زالت تعتبره بعض القوى في لبنان شائبة لا بدَّ من التخلُّص منها متى حانت الظروف الدولية والإقليمية لذلك.
أساس مَن وردت الإشارة إليه هو تيار المستقبل الآتي برئيسه الى الحكم مقلَّم الأظافر ومنزوع الأنياب المالية والشعبية، والتي يحاول الرئيس سعد الحريري إعادة لمِّ الشَّمل له في مختلف المناطق. وكانت خطابات الإفطارات الرمضانية دليلاً على هذه المحاولة اليائسة، بدءاً من الحديث المتكرِّر عما يسمّيه السطوة السورية على البلد وصولاً لوحدة قرار مدينة بيروت واستقلاليتها ومصادرة رأيها عبر الحضور السوري وسطوته حتى العام 2005، متغافلاً بأنّ والده الرئيس رفيق الحريري هو من قدَّم لغازي كنعان مفتاح بيروت.
اليوم حتى في ظلِّ القانون النسبي الذي أُقرَّ مؤخراً يعرف الرئيس سعد الحريري بعد الانتخابات أنَّ قوَّته النيابية لن تبقى كما كانت وازنة، أيّ فيها تكتُّل نيابي مؤلف من 33 نائب… لكنه رضخ ورضيَ علَّه قرأ بوضوح المتغيِّرات الإقليمية في سورية والعراق والخلاف الخليجي المستحكِم فيها، وعلاقاته الباردة مع القادة السعوديين الجُدد، وكذلك خسائره المالية وآخرها «سعودي أوجيه» وصرف العاملين فيها والذين يقدَّرون بمئات العائلات بلا عمل ولا دخل.
مجمل القول إنه رغم كلِّ هذه الانحدارات الحريرية السياسية والمالية، يحاول الاستعاضة عنها بالمجيء بمرشحين للانتخابات في لائحته قادرين على تمويل الحملة، بعدما تعثَّرت عليه إنجازات الوزير جمال الجراح واعترضت طريقه ألغام رقابية تكمُن له عند كلِّ مفترق وزاوية.
المغامرة الحريرية والوعد بأنَّه سيبقى رئيساً للحكومة حتى لو حصل على نسبة نيابية أقلّ بكثير ممَّا هي عليها الآن، جعلته يقبل وسريعاً إقرار القانون النسبي، لكننا لم نعلم مَن الذي أعطى له كلَّ هذه الوعود ومن جيب مَن، وعلى حساب مَنْ مِنَ القوى السياسية؟ إلاَّ إذا كان لبنان فعلاً مزرعة يستطيع صاحبها تأجير قسم منها لصالح هذا أو ذاك لفترة زمنية تنتهي بانتهاء اللعبة الديمقراطية المقامة على قياس أصحابها، ليعاودوا إنتاج أنفسهم بدورات سياسية وبرلمانية تجديدية تُعيد تمكينهم من مفاصل البلد، وهي نفسها على ما يبدو مرحلة التمكين التي نادى بها في كتابه أبو بكر الناجي المنظِّر لتنظيم القاعدة والذي اعتمده تنظيم داعش دستوراً وحاول العمل به.
لقد أراد الأميركي ومشروعه إصابة المقاومة في مقتل عندما عمل جاهداً مع أدواته على شيطنتها وصبغها باللَّبوس المذهبي، حيث صُرفت الأموال الطائلة على ذلك، وكذلك في مواجهة مَن هم على خصومة مع مشروع الحريرية السياسية الذي شكَّل رأس الحربة في هذا الاستهداف، وتمَّت تنحية قوى وشخصيات «سنية» عن الخريطة السياسية اللبنانية، ودفعت الكثير من رصيدها جراء مواقفها الداعمة للمقاومة، ليس ذلك فحسب بل إنّ هذه القوى «السنية» شكَّلت عمق وجوهر الصراع الوجودي والقومي مع الكيان الصهيوني الذي على أساسه عملت المقاومة وثبَّتت وجودها وأبْقت الصراع في المنطقة لأجلها.
هذه القوى التي نُحّيت، ـ النائب والوزير عبد الرحيم مراد وحزب الاتحاد نموذجاً ـ تستطيع أن تشكِّل بديلاً وطنياً أصيلاً في لبنان من دون إقصاء أحد، وها إنّ هذا القانون النسبي رغم عوراته وتشوُّهاته يُمكن أن ينبئ بما هو خير، لكن على قاعدة الإبقاء على الثوابت في السياسة اللبنانية واستمرار حضورها وفاعليتها خوفاً من المتغيِّرات الدولية وتقاطع المصالح وانقلاب طاولة التحالفات الداخلية.
أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية