واشنطن تستهلك آخر أوراقها في الأزمة السورية

د. وفيق إبراهيم

انكفاء «أدوات الاستثمار» الأميركية في سورية يفرض على قادة واشنطن تجهيز خيارات جديدة لاستكمال الحروب على الدول الوطنية في المشرق العربي.

فالإرهاب الذي شكّل الوسيلة المناسبة لضرب الجيوش والمؤسسات الدستورية، يتراجع وصولاً إلى حدود انهياره في وقت قريب في كلّ من سورية والعراق، ولا يقتصر التقهقر على «داعش» و»النصرة» بل يُصيب مئات التنظيمات المنبثقة منهما والمتمتعة بالتمويل الخليجي نفسه. أمّا العامل الإضافي فهو انعكاس تصاعد الأزمة التركية الأميركية على أوضاع تنظيمات سوريّة من أصول تركمانية تدين لأنقرة بالولاء.

ولم تعُد تتحرّك بالقدر الكافي من دون نسيان الاشتباكات التي لا تنقطع بين تنظيمات إرهابية موالية للسعودية وأخرى موالية لتركيا وقطر في غير منطقة سوريّة.

هناك إذاً، تراجع هائل في حركة التنظيمات التكفيرية وأحجامها وقوّتها، تظهر في التقدّم الهائل للجيش العربي السوري مع حلفائه الروس والإيرانيين وحزب الله ومنظمات إقليمية أخرى. لكن هناك مؤشرات استراتيجية إضافية، فوصول الجيش السوري إلى قسم من حدود بلاده مع الأردن والعراق يزعزع الاستراتيجية الأميركية المبنيّة على منع الاتصال بين هذه الدول الثلاث مع إقامة «مناطق آمنة» مزعومة انطلاقاً من هذه الحدود، تؤسس لكانتونات سياسية تفتيتية.

وما يرفع من درجات الحنق الأميركي هو نجاح الجيش والحشد الشعبي العراقيين في ملاقاة الجيش السوري عند الحدود المشتركة، مع النزوع إلى تحقيق تنسيق عميق لمنع عودة الإرهابيين.

فلماذا هذا الغضب الأميركي، طالما أنّ الدولتين العراقية والسورية تعملان على محاربة الإرهاب؟

ألم تستند واشنطن إلى محاربة الإرهاب لتبرير تدخّلها العسكري المباشر وغير المباشر؟ وتقود تحالفاً من أكثر من خمسين دولة بالذريعة نفسها، ويتبيّن أنّ هذا الإرهاب ينمو وهو مرصود من الأقمار الاصطناعية الأميركية التي لا تفعل أكثر من الاطمئنان على سلامة حركته ونقله للذخائر والإرهابيين والمؤن والسلاح!!

لجهة الأسباب الإضافية، فيتربّع على رأسها نجاح المثلث الإيراني الروسي السوري، في تقطيع وسط سورية إلى رؤوس جسور تحول دون توسّع المشروع الأميركي واستقراره، والملاحظ أنّ الجيش السوري تقدّم من الشمال على مقربة من حلب لناحية وسط سورية جنوباً، زاحفاً من جهات متنوّعة في بوادي حمص وحماة وبادية تدمر والجهات الحدودية من السويداء، مشكّلاً نقاطاً تضع في أهدافها حصر مدينتي الرقة والطبقة مع قطع الاتصال بينهما، وتحرير دير الزور واستكمال وضع اليد على الحدود مع العراق والأردن، وبذلك ينتهي المشروع الأميركي في العراق وسورية، وليس فقط الإرهاب المدعوم منه.

يأتي إذاً تحرير الجيشين العراقي والسوري للقسم الأكبر من أراضي دولتيهما المحتلة من الإرهاب، وانفجار العلاقات الأميركية مع تركيا وعدم تأثر روسيا وإيران بالمقاطعة الأميركية، وخسارة الفكر التكفيري جمهوره في العالمين العربي والإسلامي مع تراجع كبير للمنظمات السوريّة التكفيرية والمنتحلة الصفة المدنية، والدليل تصريحات الفار رياض حجاب الذي نعى المعارضة السوريّة واستقالات معظم الشخصيات الأساسية في الهيئة العليا للمفاوضات والائتلاف… والاشتباكات العنيفة بين تنظيمات الإرهاب.

تأتي هذه العناصر لتجرّد واشنطن من أدواتها كلّها للاستثمار في تفجير سورية، ولم يبقَ لها سوى قواعدها العسكرية المباشرة المنتشرة في شرق سورية وحدودها الجنوبية، بالإضافة إلى «قوات سورية الديمقراطية» الكردية المطعّمة ببضع فئات من أبناء عشائر عربية درّبتهم المخابرات الأميركية لإضفاء «تعريب» شكلي على هجمات كردية أميركية غربية تستهدف مدناً عربية بكاملها.

وتبيّن لواشنطن عدم كفاية القوات الكرديّة على مستوى العدد، ونقص أدوات التعريب التي بدأت تتجلّى بتذمّر العشائر العربية من طغيان الدور الكردي المدعوم من أقمار اصطناعية وقاذفات استراتيجية ومدفعية ميدان متطوّرة، وآلاف عدّة من قوات أميركية وبريطانية وفرنسية تشارك مباشرة في الهجمات، كما فعلت في الطبقة والرقة.

إنّ لعبة الاستراتيجية للسيطرة على المربعات الحدودية بين سورية والعراق والأردن عكست التحليل العميق لسورية وتحالفاتها في إبعاد التحرّك الأميركي في الجنوب، فبين تقدّم وتراجع تبيّن للأميركيين أنّ هيمنتهم بدأت تتقلّص، ولا يمكن إعادة تعويد دورها إلا بالاستفادة من القمة الأخيرة في الرياض لبناء وسائل جديدة تحفظ أصول المشروع الأميركي بتفتيت سورية والعراق وكامل المشرق بشكل تدريجي.

اتّخذ القسم الأوّل من الخطة الجديدة ضرورة إرباك إيران من داخلها بإثارة الأقليات العرقية والدينية فيها، وكانت هجمات الإرهاب في طهران ومرقد الإمام الخميني الجزء التمهيدي، وردّ الإيرانيّون بتفكيك عشرات الشبكات الإرهابية، ما يدلّ على حسن الرصد المسبق لأجهزتهم. أمّا الردّ الاستراتيجي فجاء على شكل إطلاق صواريخ باليستية من إيران إلى دير الزور في سورية عبر العراق، أصابت مقر قيادات الإرهاب، وشكّلت رسالة عميقة للسعودية من جهة، ولـ»إسرائيل» من جهة ثانية، والقوات الأميركية المنتشرة في الدول العربية من جهة ثالثة. لذلك تحاول واشنطن اليوم تصحيح العلاقة مع الأتراك لزجّهم مجدّداً في عمق أزمة سورية من خلال وساطات سعودية وبحرينية فيها مليارات الدولارات كالعادة، ولم تؤتِ ثمارها لكنّ العروض مستمرّة.

وعاد الأميركيون والسعوديّون إلى تزخيم الخيار الأردني، طالبين من عمان الزجّ بوحدات عسكرية عند حدودها مع سورية. وهذا ما بدأ التحضير له، على الرغم من أنّ مثل هذا التورّط يفجّر الوضع الأردني الداخلي متيحاً الفرصة لهيمنة الإرهاب على عمان.

أمّا الجزء الأخير من الخطة الأميركية الجديدة، فهو إعادة تأهيل التدخّل العسكري «الإسرائيلي» بوسائل عدّة: الابتداء بعلاقات اقتصادية، تجارية دينية مع الرياض والإمارات والبحرين تنعكس على معظم العالم الإسلامي، وتُستكمّل بعلاقات سياسية على قاعدة منح فلسطينيي «أبو مازن» قسماً من الضفة الغربية وجزءاً من المسجد الأقصى، مع الموافقة الخليجية على اعتبار الجولان السوري المحتل من أراضي 1948 الفلسطينية، وحالها كحال «تل أبيب» وحيفا والناصرة وعكا ويافا…

وبذلك تستطيع «إسرائيل» شنّ حرب على سورية ولبنان مدعومة من الجانب الخليجي والأميركي… والذريعة جاهزة، وهي أنّ «حزب الله» إرهابي يجب القضاء عليه والنظام السوري حليفه.

فهل تقود واشنطن المنطقة إلى حرب إقليمية قد تكون غير مضبوطة ضمن هذا الإطار؟

لن تقف روسيا مكتوفة الأيدي إزاء هذه التطورات الخطيرة، لذلك أرسلت ما يشبه إنذاراً صامتاً إلى واشنطن بضرورة عدم مهاجمة الدولة السوريّة ردّاً على إسقاط القوّات الأميركية لطائرة سوريّة كانت تقصف مواقع إرهابية في مدينة الرقّة التي تهاجمها القوّات الكردية. ولن تسمح للقوات الكرديّة بمهاجمة الجيش السوري، كما فعلت في اليومين الماضيين.

لجهة إيران، فإنّ صواريخها التي أدركت منذ أيام عدّة دير الزور، هي رسائل بالغة الوضوح في كيفية الردّ الإيراني المرتقب على أيّة محاولة أميركية جديدة لتغيير انتصارات الدولة السوريّة.

كما أنّه ليس من مصلحة «إسرائيل» استغلال صلحها مع السعودية لفتح حروب ضدّ أعداء الرياض، فهي حروب تبدأ بمعارك، لكنّها لن تنتهي إلا بعودة التضامن العربي والإسلامي حول قضية فلسطين.

وبالنتيجة، فإنّ المحاولات الجديدة لواشنطن هي مجرّد تطويل عبثي لحرب خسرتها وتحاول الحدّ من تحوّل هذه الخسارة إلى تشكّل مرجعيات دولية تتربّص الظروف لإعلان نهاية الإمبراطورية القدرية الأميركية في المشرق العربي.

ولن تجدي محاولات إنشاء ناتو عربي إسلامي بزعامة السعودية لـ»منع المقدور»، فهناك اتجاه متسارع لوعي شعبي عربي بمدى ارتباط القرون الوسطى الخليجية بالأميركيين و»الإسرائيليين»، ولن تكون بوادي بلاد الشام إلا المدفن اللائق لمشاريع السطو التاريخي على المنطقة العربية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى