حوار وانتخابات نيابيّة أم صراع مبكر على الرئاسة؟

د. وفيق إبراهيم

يكشف المشهد السياسي اللبناني عن صراعٍ متفلّت بين القوى السياسية لبناء تحالفات راسخة تشبك بين الانتخابات النيابيّة المرتقبة بعد أحد عشر شهراً، وانتخابات الرئاسة في 2022.

ميزة هذا القتال الضاري ليست في مضمونه فقط، بل في توقيته المتزامن مع بدء ولاية الرئيس ميشال عون. لأنّ العادة المتبعة تاريخياً كانت تجعل من السنة الأخيرة للولاية موعد الصراع على هُويّة الرئيس المقبل، فما الذي طرأ حتى تبدّل العرف المعمول به؟

هناك عاملان أساسيّان كانا يحدّدان سابقاً هويّة الرئيس، وهما الطرفان الإقليمي العربي والدولي، اللذان كانا يتفاوضان ويتوصّلان إلى تسوية لطالما أنتجت الرئيس منذ استقلال البلاد في 1943 وحتى تاريخه، لكنّ الاضطرابات العسكرية والسياسية المندلعة في المشرق العربي، استأثرت باهتمام هذه القوى المعنيّة التي لم تتخلّ عن دورها، لكنّها لا تجد ضغطاً في المواعيد فترجئ التدخّل، حتى تتّضح صورة المشهد الإقليمي على غالب ومغلوب أو على تسوية على الطريقة اللبنانية التي تجمع بين الذئب والغنم.

لذلك يمكن تفسير هذه الهرولة الداخلية بمحاولة بناء مسبق لأوضاع سياسية في البيئات الطائفية اللبنانية، وترسيخها لتصبح قوى أمر واقع لا يمكن تجاهلها في الانتخابات الرئاسية المقبلة. وهذه القوى الداخلية موجودة أصلاً وتتمتّع بعلاقات دولية وإقليمية جيدة من طريق محاولاتها الدؤوبة والدائمة لبناء توازنات دقيقة بين التيارات الإقليمية، لكنّها لا تناصبها العداء لا علناً ولا سرّاً.

وبما أنّ رئيس الجمهورية من الطائفة المارونية، فإنّ من الطبيعي أن تتمركز محاولات «بناء المواقع» السياسية أو الاستئثار بها داخل البيئة المسيحية، ولا بدّ من الإشارة إلى تغيير كبير في موازين القوى المسيحية، انبثق نتيجة لرفض التيّار الوطني الحرّ محاولات طرد «المسيحيين من الدولة»، التي يعتبرون أنفسهم مؤسسيها… وهي محاولات بدأت في 1975، وازدادت بعد 1992 مع بدء المرحلة «الحريرية» في لبنان. الأمر الذي مكّن تيّار العماد ميشال عون من نَيل ثقة المسيحيين بمعدلات كبيرة.

ونتيجة لتطوّر القوة «الحريرية» التي تماهت مع السياسة السعودية بشكل كامل، مع اندلاع صراع سعودي سوري إيراني، بنى العونيّون مع حزب الله تحالفاً أحدث «فرملة» للمشروع السعودي في لبنان، محتفظاً للمسيحيين بمعظم دورهم التاريخي في الدولة وموفِّراً لحزب الله الغطاء الداخلي لجهاده الإقليمي… أمّا دليل نجاح هذا الحلف فواضح في انتشار الحزب في الإقليم ووصول العماد عون إلى الرئاسة بعد استسلام المتمنّعين وصعودهم إلى قطار عون نصرالله وانتحال صفة صانعي الرؤساء.

لقد بدأت العونية السياسية في شرعنة دورها المسيحي على مستوى لبنان، لذلك ابتدأ تفكيرها يذهب نحو «تأبيد» الرئاسة في حمى التيار الوطني الحر، وهذه هي المشاعر التي تنتاب أيضاً حزب «القوّات اللبنانية»، الذي اعتقد «ببراءة» أنّ تأييده لوصول العماد عون إلى الرئاسة يفرض موقفاً مماثلاً على العونيّين بتأييد جعجع للرئاسة المقبلة.

في المقابل، يواصل الوزير سليمان فرنجية تعبيد «طريقه الرئاسية» بالاستمرار في تحالفاته الداخلية والخارجية، معتبراً أنّه كان قاب قوسين أو أدنى من رئاسة الجمهورية لولا الظروف الدولية والداخلية التي فرضت على حلفائه التمسّك بالعماد عون، لذلك يواصل مسيرته وسط الكثير من الألغام والكثيف من الأشواك التي تنصبها الأطراف المسيحية التي تخشى من علاقاته المتنوّعة والنافذة.

إلى جانب هذه القوى الأساسية، يحاول النائب سامي الجميّل بناء طريقه إلى الرئاسة بسياسة «السلب»، ايّ إظهار مفاسد الآخرين ترقّباً لتغييرات إقليمية ودولية تعيد حزبه الكتائب إلى دائرة الضوء متسلّحاً بالله والوطن وعائلة الجميّل. وكذلك يسعى المسيحيون المستقلّون الذين «ترمّلوا» بانحسار دور «آل الحريري»، وتقلّصت طموحاتهم حتى اقتصرت على النيابة فقط، أو على شيء يشبهها.

وتتمحور أدوات الصراع بين هذه القوى حول طريقة تطبيق قانون الانتخاب الذي نجح الوزير جبران باسيل بصناعته على قياس رئاسته المقبلة، مع بعض التعديلات لمصلحة الوزير جنبلاط وزعامة الحريري… من دون نسيان القوى الأساسيّة الشيعية التي يفترض رئيس التيّار الوطني الحرّ تحالفها معه. لذلك، فإنّ القانون الحالي هو المدماك الأوّل في حركة التأسيس للرئاسة المقبلة، والمرتجى منها تحقيق هيمنة على الحصة النيابيّة المسيحية، ويعتقد العونيّون أنّها تتدنّى عن 65 في المئة من مقاعد المسيحيين. أمّا القوات، فيعوّلون على حيازة 15 مقعداً نيابياً تكفيهم للّعب على وتر التحالفات اللبنانية لتأمين خيار من اثنين: وصول جعجع أو حليف له على قاعدة الولاء المطلق لحزب المستقبل.

بالنسبة لفرنجية، فمسعاه الحفاظ على كتلته النيابية، لأنّه يعتمد على قوّة حلفائه في الداخل والإقليم، أمّا الكتائب فلا تزال تعتقد أنّ التناقضات الإقليمية بين الشيعة والسنّة، والخلافات بين «التيار» و»القوات» وانسداد حظوظ فرنجية «لجنوحه السوري»، أسباب ترفع من حظوظ «فتى الكتائب».. وكذلك حال المسيحيين المستقلّين وموظّفي الفئة الأولى في الجيش والقضاء ومصرف لبنان، الذين يعوّلون على الدور الإقليمي والدولي والتناقضات الداخلية للمرور إلى بعبدا.

لذلك يبدو أنّ التيار الوطني الحر هو القوة المسيحية الوحيدة التي تسعى لجمع القوى الإسلامية كلّها في سلّة طموحها الرئاسي، مع تمتين العلاقات مع حزب الله والسّعي إلى إيجاد قواسم مشتركة مع الرئيسين برّي والحريري، وإحباط «القوات» إلى حدود إغرائها بمواقع وزاريّة ونيابيّة دائمة، مع إمكانية استيعاب بعض المسيحيين المستقلّين الذين لم يبالغوا في استعداء الظاهرة العونية.

تبقى في وجه الوزير باسيل عقبات مستعصية حالياً، وأوّلها تناقض المصالح مع «مردة فرنجية» و»اشتراكيّي جنبلاط» و»كتائبيّي سامي الجميّل». هؤلاء هم المعارضون الدائمون لمشروع ترئيس باسيل. ويأمل العونيّون من طاولة الحوار التي يرعاها الرئيس عون بين القوى الأساسية في البلاد، أن تشكّل الأداة التي توفّر حكماً سليماً مدعوماً من قاعدة سياسية عريضة، على قاعدة بناء تحالف يمهّد الدرب لوصول «وليّ العهد» إلى كرسي بعبدا.

الواضح من خلال قانون الانتخاب وطاولة الحوار، أنّ الرئيس عون يبني مثلث قوى عماده العونيّون و»المستقبليّون» والثنائي الشيعي، ما يجعل طموحاتهم سهلة التحقيق.

من جهتها، تصرّ القوّات على «حقها» بالرئاسة فتشاكس العونيين حيناً لإظهار الاستقلالية، وتتمسّك بتحالفها مع «المستقبل» والاشتراكيين مع إيمانها بإمكانية جذب الكتائب والمستقلّين المسيحيين حيناً آخر. أمّا فرنجية فيشعر بمظلومية من حلفائه، يأمل أن يعوّضوها له في مقبل الأيام، خصوصاً أنّ حلفاءه السوريين انتقلوا إلى مرحلة النصر المرتقب، ما يعزّز دورهم اللبناني.

هناك إذن مشروعان مسيحيان فعليان يتصادمان تارة بالعناق إلى حدود الخنق، وطوراً بالمشاكسة إلى مستوى الاقتتال الفعليز وهذان المشروعان المتجسّدان في التيار الوطني الحر والقوّات اللبنانية يراهنان على بناء مواقع داخلية متينة من خلال عملهما الوزاري في الحكومة، فيحصران بذلك حركة الصراع على الرئاسة بينهما فقط، ويقدّمان أوراق اعتماديهما للقوى الخارجية التي يفترض أن يكون انتباهها قد عاد ليشمل لبنان وسط اضطرابات الإقليم.

المرجّح إذن أنّ للوزير باسيل الكثير من أدوات السلطة التي تتيح له «تجذير» موقع أساسي له في الداخل والخارج، مع جعل تيّاره الوطني الحر قوّة طاغية مسيحياً ووطنياً. أمّا ترجمة هذا التفوّق فتبدو سهلة، لكنّها قد تكون صعبة على مستوى ترجمتها في الصراع على الرئاسة في لبنان، لأنّ الأداة الأساسية في الصراع التي تختار الرئيس هي القوى الخارجية التي لا تأبه عادةً لأهميته الداخلية، ولا يجب إغفال دور القوى الإسلامية الداخلية المرتبطة بدورها بالإقليم، ولها خياراتها بالمرشّح الرئاسي.

لذلك، فإنّ حركة العونيين لا تستطيع فرض رئيس مقبل، بقدر ما بوسعها حشر الأطراف الداخلية والخارجية بضرورة الاعتراف بقوّة مسيحية كبيرة ووازنة لدى المسيحيين، ولها تحالفاتها عند الشيعة والسنّة.

وبانتظار نتائج طاولة الحوار، التي قد ينبثق منها شكل التحالفات «الرئاسية» ووضع برنامج عام للحكم الحالي، يأمل اللبنانيّون بكهرباء دائمة ومياه غير ملوّثة لا تنقطع، وطرقات ليس فيها نفايات، وأمن في بلد القتل الرخيص وتعامل جدّي مع الإرهاب المتفلّت في غير مكان…

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى