محمود حامد الفلسطينيّ ينتظر عروجاً تالياً من دمشق إلى بيسانه!
حاوره: طلال مرتضى
أقسم بالريح والزيتون بأنّ مسافة وردة لا تكفي للوصول إلى بيسان. لم يسأل لمن تغنّي البلابل، كان يصغي بكل حواسه لأغاني عصافير السياج ثم يردّد شهقة الأرجوان كلازمة لنشيد أغاني على شفاه الصنوبر.
حين سألته قاصداً عن حكاية افتتاحيات الدم الفلسطيني ضحك ملء غبنه وهو يستعيد بي طفولة المجد. تركته وقتذاك ليكمل رسم الموت على ضفاف المطر.
محمود حامد، عندما استفزّه لحن الكلام، قال لي: تعقّل يا ولدي، لسنا إلا عابرون في الدمعة الأخيرة.
محمود حامد، منذ خمسين راحلة وأنت تعبّ بحور الشعر، طويلها وقصيرها… إلى أيّ مدى وصل العناد بمعشوقتك التي ضلّت درب عروجها، أما آن لها أن تلتفت ولو بنصف لثغة لتروي ظمأ روحك الغارقة بنشيدها؟
ـ قصة الشعر، فوق هذا المدى المختلف، تماماً هي كهذا المدى المختلف. كينونة هذه الأرض شُكّلت بقرار سماوي. أن تكون خير أرض لخير أمّة أُخرجت للناس، من هنا، ومن هذا كلّه، فإنّ قيمة الفعل الإبداعيّ من قيمة الأرض، الأرض التي استنبتته من رحمها المجبولة بدم الأجيال، ومغاتيها التي تسرد حكاية التاريخ منذ فحره الأوّل وإلى ما لا نهاية. إنّ الوحي الذي كان للأنبياء… كان الإيحاء رديفه للشعراء. والمفردتان من مصدر واحد هو الفعل أوحى.
أمّا قصّتي مع الشعر. فتلك قصّة طويلة وشاقّة ورائعة. عشت أنت بعض فصولها وسنأتي على مجملها تباعاً.
عاش الهاجس الفلسطينيّ، منذ بدء الحكاية في الوجدان العربيّ، كما هو قائم بضرواته في وجدان الأجيال الفلسطينيّة تباعاً. حدث في التاريخ مختلف، وهبّة شعريّة مختلفة ومغايرة ونضالات. دفعت الكثير من الدم والشهداء لتعلو راية الخلاص والحرّية فوق تراب هذه الكينونة التي تحمل خصوصيتها وتفرّدها في تاريخ الوجود باستمراريته الأزلية.
ولمّا كان الشعر هو الراوي الأساس لمجريات الأحداث في تاريخنا ومنطقتنا عبر الدهر، لذا، فقد كان صوت الأمّة والأجيال وتاريخ الحياة. في رقعة الوجود هذه منذ بدء الخليقة ولأبد الحياة.
إن حكاية الشعر تماماً كحكاية الخيمة العربية الأصيلة والتي عاشت ضراوة الصحراء، تتحدّى مجهولاتها الخفية ورياحها العاتية، كي تطوّعها لصالح مغاني الخيام وسمر ليالي المواقد والمهباح لينتج من ضراوة.
ما كان ذاك الشعر العريي الخالد قد كشف أنّ قدرة إنسان العروبة ومجريات صموده /المعجز/ صنعاً في الوجود، ما لم تصنعه قوة أخرى في تاريخ البشرية. ذاك إعجازنا العظيم.
لست بحاجة إلى من يعرّف بك، رصيدك صار رقماً من الصعب تجاوزه.
ما وددت قوله هنا ان الاعلام لعب دوراً فاعلاً في تلميع ممن ركبوا عتلة المحابة الشعرية للسلاطين وهذا ما غيب الكثير من الفرسان، لنقل إنّ درويش وسميح نموذجين؟
ـ في موضوعة الحركة الشعرية/ المعاصرة، فبعد الثلاثينات وبداية الأربعينات، كانت القصيدة تنحو منحى البيت ومنها ما صار رمزاً يغنّى مثل عبد الرحيم محمود:
سأحمل روحي على راحتي
وألقي بها في مهاوي الردى
فإمّا حياة تسرّ الصديق
وإمّا ممات يغيظ العدا
فترة الأربعينات وحتى الخمسينات كانت البداية مع عمر أبي ريشة، إبراهيم طوقان، فدوى طوقان، سليمان العيسى، ثم لاحقاً محمد الڤيتوري، عبد المعطي حجازي، هارون هاشم رشيد، علي هاشم رشيد، يوسف الخطيب، بدر شاكر السيّاب وآخرون كثيرون، لعل فترة الستينات هي الأهم في تاريخ الحركة الشعرية المعاصرة، بعدما قامت نازك الملائكة بقفزة الحركة الشعرية المعاصرة وعرفت عنها بقصيدة التفعيلة.
تلك الفترة كانت أخصب فترة شعرية معاصرة، شهدت مولد الأسماء الأهمّ في تاريخ الشعر المقاوم والمعاصر. لنقل إنّها الفترة /الطّفرة/ المهمة، بأسماء هم ثبّتوا الشعر على أهم مغناه الراهن. ومنهم: كمال ناصر، ممدوح عدوان، علي الجندي، محمد عمران، فوّاز عيد، صالح هواري، محمود حامد وشعراء حلب محمود علي السعيد، يوسف طافش وعصام ترشحاني وآخرون جاؤوا بعد، إنما بداية الستينات كانت مع هذه الثلة المؤسّسة والداعمة لتطوّر الحركة الشعرية الراهنة، في نهاية الستينات كشف يوسف الخطيب في عمله الموسوعي الوحيد لليوم /ديوان الوطن المحتل/ عن داره/ دار فلسطين/ وكنت معه غالباً، كشف أسماء شعراء الداخل، توفيق زيّاد، سميح القاسم، محمود درويش، وراشد حسين. كان شعراء سورية وفلسطين في هذه الفترة هم الجيل الأهم في تاريخ الحركة الشعرية المعاصرة، ثمّ انضم إليهم شعراء فلسطين في الداخل لكوكبة، الدعامة الأهم والأخطر في تاريخ الشعر العربي الحديث. الأسماء المهمة والأعلى قيمة شعراً وإبداعاً غيّبت لأنّها قدر الشعر المقاوم الحقيقي والصوت الإنساني بمغناه الأعلى ولأنها أصوات حرّة، صافية ونقيّة وملتزمة بقضايا أمتها وأوطانها.
كما قلت اعلاه، إنّه الضجيج الإعلامي الإعلاني المفجع وتبادل المصالح وتزوير الثوابت وتحويلها إلى منهجيات /تزييف الحقائق/ من أجل تطبيق الواقع المزيف على الواقع المشؤوم والمنحرف كلّياً عن أهداف الشعوب وتطلّعاتها المصيرية.
صاحب «ريتا والبندقية» ولسان حال أؤلئك، الصوت الأوحد والمفرد وبضعة مثله معه في قائمة الأولويّة المطلقة لتاريخنا الشعريّ المعاصر. وشعراؤنا الحقيقيون في ملفّ الهوامش الغائبة، لأنّنا نحن نحب بجنون تزييف الأشياء وقلب الحقائق إلى حرائق تلتهم كلّ جميل وتحويله إلى مشوّهات فاجرة.
فواز عيد، صالح هوّاري، محمود علي السّعيد، سميح القاسم، راشد حسين، توفيق زيّاد، يدرك الإعلام/الإعلان الباغي من هم؟ ويدرك، كذلك، من أؤلئك الّذين بثّهم قدرا في دوائر الاستهلاك. لينصّبهم قدر الأمة. وهم المسافة الغائبة في وجدان المواطن العربي الحقيقي.
في عدّة حوارات سالفة تطرّقت إلى أن محمود درويش أخذ من بعض قصائدك عناوين أو فكرة ما وجعل منها قصيدة له، هل تمرّ بنا إلى هذا؟ وهل يمكننا معرفة شيء عن العلاقة بين درويش وفواز عيد، بحكم أنك مقرّب منهما. الذي صرح ذات مرة ـ أي درويش ـ أنّ الاخير معلمه أو أستاذه؟
ـ فواز عيد هو البدايات لدرويش وغير فواز، درويش حسب كلامه لعدة وسائل إعلام كان يلقي ما في جعبته على أنّه ثرثرات عابرة، لن تؤثّر على ما سيثبّت من أقواله الأخرى ولكن السامع والقارئ العربيّ، جيّد الملاحظة ويلتقطها من الملامح، قبل أن تلقيها الأفواه، لتصبح ملكاً للقرّاء.
درويش كان يصرّح دائما بأنّه يستفيظ حتّى من بريد القرّاء، ثمّ يجيّر ما يراه مناسباً بطريقته لصالح عمله الشعريّ ولقد استفاد من التوراة والكتب الغائبة عن ذاكرة القراء والبعيدة عن التناول والتداول في الذهاب إليها، لعبة ذكية/ ومهمّة.
وأما بالنسبة لي فأنه أخذ بعض العناوين ومنها /سلاما أيّها العابرون/ لي / الجزائر /عابرون في كلام عابر له/وفي حضرة الغياب / لي منشورة في المعرفة السورية/ في التسعينات واستلف العنوان وصاروا يعتبرونه له وقد نشر عمله بعد الألفين.
وهكذا استلافاته الكثيرة من الآخرين/ صدرت في كتاب/ نشر في عمّان لكاتب لا أذكر اسمه الآن. ولكن كثيرين من الأدباء العرب اطلعوا آنها على ذلك.
أمر ما يشغلني، وددت سؤالك عنه، هل مازلت تحتفظ بالاسطوانة التي وقّعَتْها باسمك السيدة أم كلثوم ذات لقاء، وما الحكاية؟
ـ كان اللقاء مع أم كلثوم/ افتراضية النصف ساعة، لكوني صحافياً وقادماً من خارج مصر، علمت هي من الزميل الذي رتّب اللقاء معها وكان يعمل معي في السعودية، أنني من فلسطين وسورية هي حضننا الثاني وأني شاعر.
وقفت عند كلمة / شاعر/ وهذا ما علمته في ما بعد وقالت للزميل محمد، وكان مدير المراسم في محافظة القاهرة ويعمل معي مدرساً في الرياض، طلبت منه عدداً من أبياتٍ من قصيدة وكانت قصيدة /طائر الشوق/ والتي جعلت من اللقاء تتناوبه ثلاثة أيّام لقاءات عمل بيني وبينها وأحمد رامي، ملهمها الروحي والذي كتب في حاشية القصيدة: أجمل سكّر تذوقّته شفتاي في حياتي. بعد هذا العمر واطلاعي على المبدع الشعري كافة:
طائر الشّوق.
حلمت بك الأيّام قبل المولد
يا طائر الشّوق المسافر.. في غدي
عمري تفتّح في صباك حدائقَ
والعطر فاح غداة نمت على يدي
وصباي كالنيل اشتياقاً للهوى
عاش الحياة وليس غيرك يفتدي
حملتك أنسام الصّباح مغرّداً
وشذاك في الأسحار… سحر مغرّد
يا مفردا في الشّدو كيف قتلتني
بأنين بوحك وامتلكت تودّدي
حتّى كأنّك حين كنت تذيبني
شوقاً أذوب على صداك الأوحد
يا موجعي بشذا رحيقك كيف بي
أشعلتني وأثرت فيّ تمرّدي
هذا أنا ملك الفؤاد، فردّ لي
حلو الذي قد كان رعشة موعد
بيني وبينك ما تراءى جمرة
هزّت قلوب الخاشعين الزهّد
عد يا حبيبي إنّ عمري ليلة
كنت الهدى فيها وكنت المهتدي.
لقاء أم كلثوم وأحمد رامي كان حلقة تاريخية من ودّ تكنّه مصر للشام وفلسطين تحديداً. كان المفترض أن يتم العمل بيننا على قصيدة طائر الشوق، لكن أم كلثوم كانت تعيش يومها الفترة الأقصى في حياتها.
وكلمة لا أنساها أبداً: احتفظ يا محمود بالقصيدة ذكرى بيننا. مع رول كامل عن شبابها فيه القرآن وأغانيها وطقطوقاتها القديمة.
دمشق والقدس… تلك الحسناوان لم ينفك محمود حامد عن مغازلتهما ويفتديهما، كما افتدى الحسين زينب الأولى، سأتوقف هنا لتكمل أنت!
ـ فلسطين والشام شغلا بال الدنيا ومحيطنا العربي/ كل شيء كان هادراً ببركانه حتى زينب الفلسطينية وهي تصدح بي في طهران.
كم كان حلماً
أن أضمك يا أبي
في العيد أخطف قبلة
أحلى من الريحان منك
وأنت تخطف قبلتين
أن أحتويك بساعدين
يتمايلان كوردتين على الضفاف
كم كان حلماً
أن أجابه باسمك الدنيا
وأمشي خلف نعلك لا أخاف
لكنّهم
خطفوك منّي يا أبي
قتلوا طيور الحلم في صدري
وردّوني إليك… بلا يدين
لم يدركوا
أنّي حفظتك يا أبي
في المقلتين
قدراً وأنّي زينب الأخرى تجيء
وأنت تبعث في الحسين.
في موضوعة الكشف عن اسماء المبدعين الحقيقيين، عبر ساحة تنكر قيمة مبدعيها. فمنذ 15 سنة وأنا أشتغل في عملي الموسوعي الضخم والذي سيصدر في مجلدين/ شعراء فلسطين.. ذاكرة الشعر.. ذاكرة الوطن سيدي جاهز حوالي 75 شاعر، ثم الشعراء العرب.
أقول: من الرجال الرائعين من يضع جملة/ خبز وملح الرجال رجاله يحفظونه، وعند خيمة طلال مرتضى كان الخبز وشاي الموقد العربي الأصيل هو خبز وملح الحياة بيننا، تحية من الأعماق لصحيفة «البناء» اللبنانية، ولك أيضاً، وللكلمة الحرّة والتي تدقّ بقوة في وجدان الزمن ليبقى صداها قائماً في الأجيال بقوة تأثيرها.
مجموعاتي الشعرية، 13 مجموعة، منها 3 للأطفال: موت على ضفاف المطر، أغاني على شفاه الصنوبر، افتتاحيات الدّم الفلسطيني، شهقة الأرجوان، مسافة وردة تكفي، الريح والزيتون، بيسان، عابرون في الدمعة الأخيرة، لمن تغنّي البلابل، طفولة المجد، أغاني عصافير السياج.
وبالمناسبة.. كافة إصداراتي عن اتحاد الكتاب العرب ووزارة الثقافة السورية، قدمت لي الفضائيات العربية أوبريت / إليك أعود / عام 2007. هذا جزء من مسيرة حياة/ لواحد من الذين حاولوا ترك بصمة لدى قرائه، والبصمة جاءت بروعة اللونين الأحمر والأخضر.