ثلاثة محاور تتصارع في «سوراقيا» وعليها…
د. عصام نعمان
شئنا أم أبينا، تنظيمُ «الدولة الإسلامية داعش» ألغى حدود سايكس بيكو بين سورية والعراق. «دولته» قامت وهي تسود في «إقليمها» الذي يضمّ محافظات العراق الغربية ومحافظات سورية الشرقية، وقواته تنشط على حدود سورية مع تركيا، وحدود سورية مع فلسطين في الجولان الذي تحتله «اسرائيل»، وحدود سورية مع لبنان في منطقة عرسال.
الولايات المتحدة تقرّ عملياً بالوضع المستجدّ، وتتعامل معه، وتحارب «داعش» من الجوّ داخل «إقليمها» العابر للحدود. مثلها يفعل حلفاؤها الأطلسيون والإقليميون.
تركيا تقرّ سياسياً بالوضع المستجدّ، لكنها لم تحسم أمرها حياله عسكرياً بعد. فهي راغبة بل مستعدة للعمل داخل سورية إنما متحفظة بشأن العمل داخل العراق.
محور الممانعة والمقاومة إيران وسورية وقوى المقاومة في لبنان وفلسطين المحتلة يشكّك في مرامي الولايات المتحدة وينتقد نهجها في التصدي العسكري لتنظيمِ «داعش» حيث يوجد وينشط، لكنه يتعامل مع الوضع المستجدّ كأمر واقع مرفوض سياسياً وأمنياً في الحاضر، لكنه غير محسوم المصير في المستقبل.
يتحصّل من هذه الواقعات أنّ ثمة وضعاً أمنياً وجيوسياسياً قد نشأ فعلاً بين سورية والعراق تُمكن تسميته «سوراقيا»، وأنه مسرحٌ لصراع محتدم، طويل ومعقّد.
مم تتكون أطراف الصراع؟
إنها، في الواقع، ثلاثة محاور. الأول، قديم نسبياً يتكوّن من سورية نفسها، حيث الصراع فيها وعليها، ومن إيران وقوى المقاومة العربية لـِ»اسرائيل» في فلسطين المحتلة ولبنان. الثاني، يتكوّن من الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا والسعودية والإمارات العربية المتحدة والبحرين والكويت والأردن ودول أخرى أطلسية وإسلامية. الثالث، البازغ حديثاً، يتكوّن من تركيا وقطر التي تشارك أيضاً في المحور الثاني.
المحور الثاني والثالث يضمّهما نظرياً «التحالف الدولي ضدّ الإرهاب» المتمثّل بـِ»داعش» وأخواته من تفرّعات «القاعدة». ظاهر الحال يوحي بأنّ الولايات المتحدة هي قائد التحالف. واقع الأمر يشير إلى حقيقة مغايرة هي أنّ دور واشنطن في التحالف لا يتعدّى التنسيق بين أطرافه ذوي المرامي والأغراض المتعارضة وأحياناً المتناقضة.
يتضح من تصريحات باراك أوباما ومساعديه أنّ الولايات المتحدة تريد احتواء «داعش» لا سحقه، وتريد إزاحة الرئيس بشار الأسد لا إسقاط نظامه، وتريد تسويةً سياسية للأزمة السورية تضمن مشاركة واسعة لأنصارها وأنصار السعودية في الحكومة الانتقالية المرتجاة، ولا تعارض قيام دولة لـِ»داعش» بين دجلة والفرات تمتدّ من حدود العراق وسورية مع تركيا في الشمال الى حدودهما مع الأردن في الجنوب، كما لا تعارض إقامة ثلاث مناطق عازلة على الحدود بين تركيا وسورية، وبين سورية و»إسرائيل» في الجولان المحتلّ، وبين سورية ولبنان في منطقتي القلمون والبقاع.
السعودية تشاطر الولايات المتحدة رغبتها في إزاحة الأسد، ولا تعارض إزاحة نظامه، ولعلها لا تعارض أيضاً إقامة المناطق العازلة الثلاث إذا كان ذلك يساعد في إزاحة الأسد ونظامه معاً.
بريطانيا تشاطر الولايات المتحدة أغراضها فيما تميل فرنسا إلى التوافق في أغراضها مع السعودية.
تركيا تبدو غامضة بشأن مراميها القصوى. غير أنّ أغراضها في الحاضر تتمحور حول إزاحة الرئيس الأسد ودعم حلفائها الإسلاميين «المعتدلين» الإخوان المسلمين ، المتحالفين مع المعارضة السورية الليبرالية المدعومة من الولايات المتحدة والسعودية والساعية إلى المشاركة الوازنة في حكومة انتقالية تتجاوز النظام السياسي القائم. وتعارض تركيا أي صيغة لحكم ذاتي للأكراد السوريين في شمال شرقي البلاد مخافةَ ان تنتقل عدواها إلى جنوب شرقي تركيا حيث تقيم غالبية الأكراد الأتراك. أما في المدى الطويل، فما زال رجب طيب أردوغان يدغدغه «حلم عثماني» بمدّ نفوذ تركيا إلى مجمل مشرق العرب، ولهذا السبب تراه يعادي نظام الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الذي نجح في إزاحة حكم «الإخوان المسلمين»، حلفاء الرئيس التركي وأداته في تحقيق حلمه العتيق.
إذ تبدو تركيا متأهّبة للتدخل برياً في سورية بدعوى إنقاذ ضريح جدّ العثمانيين سليمان شاه في منبج، شمال شرقي حلب، وتفادي اجتياح «داعش» لبلدة عين العرب كوباني السورية الكردية، فإنّ إيران وسورية تبدوان مطمئنتين. فقد صرح الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي في إيران علي شمخاني، بعدما قابل الرئيس الأسد عقب زيارته لبنان واجتماعه برئيس الحكومة تمام سلام والأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، بأنه «لا يتوقع أن يشنّ التحالف هجوماً برياً في سورية». الهجوم البري كما إقامة منطقة عازلة قد تعارضهما الولايات المتحدة في الوقت الحاضر، لكنها تسلّم بالأمر الواقع إذا ما استطاعت تركيا فرضه في شمال سورية عاجلاً أو آجلاً.
الجانبان السوري والإيراني يتشككان في مرامي الولايات المتحدة ونهجها في سورية والعراق. فقد أصدرا عقب زيارة شمخاني دمشق بياناً انتقدا فيه «ازدواجية المعايير التي ما زال ينتهجها الغرب لتمرير أجندات غير معلنة». كما أبرزا «أهمية مواصلة وتعزيز التعاون الاستراتيجي القائم بينهما … في مواجهة تمدّد الإرهاب التكفيري الذي بات يهدّد جميع الدول القريبة منها والبعيدة». مؤدّى هذا الكلام أنّ طهران ودمشق لا تستبعدان مشاركتهما عسكرياً في مواجهة الإرهاب التكفيري مباشرةً في سورية والعراق.
لعل جرس الإنذار سيدقّ عندما يدخل الجيش التركي شمال سورية تحت أية ذريعة. ذلك أنّ طهران ودمشق تشكّان بوجود تواطؤ بين أنقرة و»داعش» يهدف إلى تحقيق مرامي جيوسياسية في العراق وسورية، ما يشكّل تهديداً سافراً لأمنهما القومي كما لوحدة سورية وسيادتها. ساعة اتخاذ القرار ستكون على الأرجح عند تأكدهما من قيام الأتراك بإقامة منطقة عازلة في شمال سورية وتطبيق حظرٍ للطيران فوقها لعرقلة نشاط سلاح الجو السوري ضدّ «داعش» وسائر المجموعات المسلحة.
انفراد تركيا بخطوةٍ استراتيجية كهذه دليل ساطع على وجود مرامٍ وأغراض متعارضة لدى أطراف «التحالف الدولي» وبالتالي وجود محورين داخله، وعلى أنّ الولايات المتحدة تمارس بينهما دور المنسّق لا القائد. وفي هذه الحال، فإنّ الصراع بين المحاور الثلاثة سيطول ويتشعّب ويتعقّد.
وزير سابق