ضمّدوا جراح غزة

وسام زغبر

يسقط أبناء غزة صرعى الانقسام وتبكي أمهات الثكلى حزناً على أبنائها الضحايا ظناً أن غزة الجريحة سوف تموت من وقع اشتداد الأزمات التي تعصف بها ويبني محتكرو الانقسام أمجادهم عليها.

غزة البائسة تعيش الزمن الذي هو شيء آخر فيها. وهو عنصر ليس محايداً. فهي التي خاضت ثلاثة حروب «إسرائيلية» في غضون ثماني سنوات عجاف وحصار يمتدّ لعامه الحادي عشر وانقسام يتجاوز العشر سنوات، ربما تدفع الظروف بها إلى الانفجار لا هو موت ولا هو انتحار، لأن خاصرتها محاطة بالألغام، ربما يتطاير لحم غزة شظايا قذائف. إنه سلاحها في الدفاع عن بقائها وفي استنزاف عدوها اللصيق بها لتكسر أحلامه وتخدش وجهه، لذلك يكرهها الاحتلال حتى القتل ويسعى إلى إغراقها في البحر أو الصحراء أو في الدم.

غزة أمّ البؤساء، يسقط فيها الشهداء ومن الأطفال في صراع التحويلات الطبية بين طرفي الانقسام في الضفة الفلسطينية وقطاع غزة، ويتباكى المسؤولون على الفضائيات صوناً لمصالحهم وأشغالهم التي تكبر يوماً بعد يوم، ظناً منهم أن يطول عمر تلك المأساة لتصل بهم لبر الأمان ليس من اجل الحفاظ على ما تبقى من المشروع الوطني الفلسطيني، بل باتجاه تسمين مصالحهم الذاتية.

قطاع غزة يعيش لغة الأرقام المخيفة في المأساة والبؤس والفقر، حيث يقطن على أرضه أكثر من 2 مليون مواطن، تبلغ فيه نسبة الفقر80 في المئة وتتجاوز نسبة البطالة 42 في المئة، ويصطف مئات الآلاف من المتخرجين والعمال في طوابير البحث عن مستقبل زاهر لهم ولأسرهم. في غزة تتلوث مياه الشرب وتختلط مياه الصرف الصحي ببحرها الأزرق وينعدم الأمن الغذائي ونظيره الوظيفي على وقع خصومات موظفي السلطة الفلسطينية وقانون التقاعد للعسكريين والإجراءات غير المسبوقة الظالمة.

ومع كل هذا الواقع الأليم في غزة فهي الأشد قدرة على تعكير مزاج العدو وراحته. فهي كابوسه لأنّ أطفالها بلا طفولة وشيوخها بلا شيخوخة ونساءها بلا رغبات، كما وصفها الشاعر الفلسطيني محمود درويش، فهي أجملنا وأصفانا وأغنانا وأكثرنا جدارة بالحب.

غزة تعيش واقعاً مؤلماً وقاسياً يتجاوز وصف الكلمات، ما دفع بالسكان للسقوط في متاهات الحاجيات الإنسانية من دون الاكتراث لخطورة ما تتعرّض له القضية الفلسطينية، مندفعون نحو الألم لعله يكون أملهم. وهذا يرجعنا إلى ما نبّهنا منه سابقا أن الأحداث المتسارعة التي تشهدها وشهدتها غزة في العقدين الأخيرين لم تكن عابرة، بل في إطار خطة إقليمية مدروسة تسمى «الفوضى الخلاقة». كانت بداية فصولها محاصرة ورحيل الرئيس ياسر عرفات عام 2004 والانسحاب «الإسرائيلي» من غزة والانتخابات العامة وأحداث الانقسام وما تبعها من جولات المصالحة والصراع على السلطة إلى انطلاق ثورات ما يُسمّى بالربيع العربي والاهتزازات العربية وتوالد الضغوط والانفراجات على فلسطين، كان لقطاع غزة النصيب الأكبر في تلك اللعبة السياسية إلى اتفاق الفرصة الأخير بين حركة حماس والنائب محمد دحلان وجمهورية مصر العربية.

المهلّلون والمطبّلون للكارثة الإنسانية العاصفة في غزة، خاصة أنها ليست وليدة اللحظة، يدفعون بالقطاع للقبول بواقع جديد ربما يكون مقيداً بشروط أكبر غاياته سياسية يخرج غزة من وحلها مؤقتاً وليس بالمجان، نحو طريق ربما لا يسرّ صديقاً ويفرح العدو.

فنحن لا نريد أن تكون غزة تجارة خاسرة للسماسرة بل تكون كنزاً معنوياً وأخلاقياً لا يقدّر لكلّ العرب، قد ينتصر الأعداء على غزة ويكسرون عظامها وقد يزرعون الدبابات فی أحشاء أطفالها ونسائها وقد يرمونها فی البحر أو الرمل أو الدم، ولكنها لن تسكت وستواصل الانفجار لأنّ أسلوبها هو إعلان جدارتها بالحياة.

فلكلّ الواهمين بحلّ الصراع الفلسطيني «الإسرائيلي» عبر بوابة المفاوضات، وفق الشروط القديمة – بعد تجربة ربع قرن- لن تنالوا أكثر من سلام اقتصادي – وفق طرح نتنياهو عام 2009 أثناء تسلمه رئاسة حكومة الاحتلال – فالاستيطان في الضفة الفلسطينية بما فيها القدس يتعاظم أكبر وأكبر، والتهم مساحة الأرض بنسبة 22 في المئة الموقعة في اتفاق أوسلو لإقامة الدولة الفلسطينية العتيدة والتي لم يبق منها سوى دولة كانتونات متقطعة الأوصال في الضفة، فيما غزة التي تبلغ مساحتها الكاملة 365 كم مربع يقتطع الاحتلال قرابة 24 في المئة من أرضها كمنطقة أمنية ممنوع الاقتراب منها تلتهمها المنطقة العازلة، فيما بلاد اللجوء والشتات حدّث ولا حرج ويتمّ تجاهل وتهميش دور منظمة التحرير في استهداف واضح لقضية اللاجئين والمغتربين وتارة بخلق أجسام غريبة لمنظمة التحرير.

إنّ فلسطين ستبقى عصية على الكسر وستصمد في وجه المؤامرات التي تحاك ضدّها وغزة والقدس ستخرجان أقوى من جراحهما ومأساتهما، مهما حاول البعض العبث فيهما وإفراغ القضية الفلسطينية من مضمونها وتصويرها أنها قضية إنسانية، لأنه لا دولة فلسطينية من دون غزة والقدس ولا دولة في غزة.

كاتب صحافي فلسطيني قطاع غزة

swisam2009 hotmail.com

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى