الشامل عبد الحليم حمّود لـ«البناء»: أيّ تجديد يحتاج إلى «كاميكاز» فكريّ جاهزٍ لتلقّي الاتّهامات والشكوك والتخوين والتكفير
حاوره: طلال مرتضى
«متل ليرة الدهب… كيف ما رميتها بترنّ»، هكذا يلقبّه معشر الأدباء. أثبت حضوراً لافتاً كفنان تشكيليّ، حيث جسّد من خلال الكاريكاتير مواقف كثيرة. شعرياً، استطاع توقيت قصائد «هايكو» كثيرة من خلال رسومه، فأبدع في ذلك. وحين اقتحم سهل الرواية الممتنع ترك بصمة لافتة.
إعلامياً تدرج للعمل ما بين فتنة الصورة والصوت، حيث عمل في أكثر من محطة تلفزيونية كمقدّم برامج ثقافية، أيضاً تركت أثراً في النفوس وساهمت في دعم مبدعين كثيرين.
مؤخّراً، أسّس «بيت حواس الثقافي» كجمعية ثقافية تُعنى بالمواهب، واستطاعت ـ «حواس» ـ خلال مدة قصيرة، التواجد في الساحة كرقم قويّ، على رغم الأصوات النافذة التي حاولت خنقها وهي في المهد الأوّل.
الشامل كبحر عبد الحليم حمود وحوارية متخفّفة غير متكلّفة، تحدّث إلى «البناء» بصدر رحب وثقة وثّابة.
يمرّ العقل «العربي» بمرحلة حرجة، موت سريريّ مفتعل وبمعنى آخر تمّ تعطيل هذه الخاصيّة لدينا وذلك لتكريس العقل البديل، أي بضغطة «زرّ» يمكنك حلّ أكبر المعادلات وأصعبها، في ظلّ هذا… العقل العربي إلى أين؟
ـ في سؤالك وضعت كلمة العربي بين مزدوجين، وفي جوابي أضع كلمة العقل بين مزدوجين، ذلك أن التوليف يصبح كاريكاتيرياً حين تتجاور كلمة عقل مع كلمة عربي. لن نتوقف عند الاستثناءات، فالقاعدة تجب ما قبلها.
العرب يدورون دوراناً خلّبياً، بعضه تراثي قبلي، والبعض الآخر سببه سوء تأويل النصّ الدينيّ، والمعطى الثالث هو اشتغال الأصابع الغربية في أساس تركيبتنا والضغط على أيّ «زرّ» حتى يلائم أيّ هدف يريده. إذاً نحن والآخر علينا، ولا أحد معنا.
ميشال سير المستشرف… ودلالة الفكرة أو تقمّصها، والتي تغيّر كلّياً مجترعها. عبد الحليم حمّود كثيراً ما نجدك في حالة انفصام وتحيّز لفكرتك لدرجة التخفّف من أناك لتتبعها؟
ـ الفكرة حين تنبجس وتشرق تصبح مثل الشمس للجميع المشكلة أن بعضنا يحملون مظلات . من هنا لا أب للفكرة إلا من باب حفظ سجلات القيد، أما مضمونها سلباً وإيجاباً فهو مشاع بشريّ. حين أفتتن بفكرة أتبعها وأرقص في عرسها. لا شيء يسعدني مثل فكرة خلّاقة تهبط على عقلي مثل نيزك مشتعل. لهذا أحبّ ميشال سير المفكر الرؤيوي المستشرف للآت من السنوات، مستبصر بعقله لا ببلّورة «عربية» تقرأ الطالع.
ماذا يعني أن نعيش في عصر الطبقية المعرفية والسلوكية؟
ـ إنها مسؤولية المسؤوليات، طبقتك أن تصنعها، بعرق عقلك، وجهدك الفردي. اليوم وفي المقهى ذاته وعلى الطاولة نفسها، يجلس أشحاص متعدّدون من طبقات معرفية عدّة، بينهم بعض القواسم المشتركة «البرّانية»، وما أن يتعمق الحديث ويتشعّب حتى يبدأ الفرز بين «نخب أول» و«نخب ثان». هذه المرة نحن نتجنّى على أنفسنا ولا أحد يتجنّى علينا. أن تعيش زمنك أي أن تبرع في فهم «كتالوغ» الحياة.
قلتَ: لقد فقد المثقف دوره كمرشد وفي آن تالٍ تقول: على المثقّف ألّا ينسحب!
ـ إعادة انتشار، توزيع جديد لدور المثقف بما يتلائم مع النظام الإنساني الجديد. وسائل التواصل خلطت الأوراق والتسميات. المثقف لم يعد ذلك النخبوي المنظّر الخبير العارف في محيط من «العوامّ». حين نرى هذا المثقّف وهو يعطي هاتفه الذكي لابنه كي يعالج خللاً فيه، يقف مشدوهاً مكتوف اليدين أمام رشاقة أصابع الابن ومهارته. على المثقّف أن يتواضع، ثم ينغمس في العملية التوعوية لكن ليس على شكل ناظر المدرسة.
ولدنا بالفطرة مسيّرين، نُقّاد كالأنعام تحت سوطَيّ الدين والعسكر، هل من المجدي فصلهما اليوم عن الدولة، وما هي أوجه التشابه بينهما؟
ـ أنا مع النظام العلماني الذي يشكّل خشبة الخلاص تحديداً في البلدان التي تعاني من التوتّرات المذهبية والعرقية. بلادنا تعاني من هذا كلّه، وهو ما يقوّي رجل الدين الناضح بالخرافات، الذي يبيع الوهم في سوبرماركت فارغة، على رفوفها بضاعة من سراب لا تنتهي مدة صلاحيتها، فيها قصور في الجنّة وزقوم في النار. العسكريّ صار أذكى، ما عاد يرتدي البزّة المرقّطة، فحوّلها ربطة عنق وحذاء لامعاً، وقد أخفى المسدّس في جيبه الداخلي والهراوة في خاصرته.
في كتاب «سأخبر الله كلّ شيء» للزميلة رنا حيدر، قدّمت رؤيتين مختلفتين، في كل من باب «ناسوت» الذي يحمل مقولات ودلالات غربية ناضجة، وباب «لاهوت» الذي تطرّقت إليه من صلب حياتنا كمشرقيين. كيف عليّ كمتلقّي أن أنحو صوب الرؤية الأولى «ناسوت»، وأنا مشبع تماماً بالرؤية «لاهوت» التي تحاصرني بالحلال والحرام؟
ـ «سأخبر الله كلّ شيء» كتاب حاورتني فيه الصديقة الشاعرة رنا حيدر بشكل نظَّم الفكرة في ذهني بحيث تمّت مَنهجة الأفكار حتى كادت تصير مشروعاً بذاته. فعلاً ثمة حالة مركّبة بين الناسوت واللاهوت، وفي الشرق يكاد المصطلحان أن يكونا توأماً سيامياً متّصلاً، وبشكل مشوّه. المصائب التي تحلّ علينا ننسبها إلى السماء، والظلم الذي نعيشه نردّه إلى حكمة ما في السماء. لست مع التخلّي عن الحالة الروحية، لكنّني أعمل على استئصال الورم الخبيث المتفشّي في الروح، ألا وهو الخضوع والسكونية، وترك الأمر لأولي الأمر! معاً لنقضي على «سرطان الروح».
قلتَ إن الفلاسفة العرب مصابون بلعنة سيزيف. لا يصلون إلى نتيجة لأنهم يرفعون الصخرة الخطأ نحو القمة الخطأ. هل وصل بنا الإفلاس إلى هذا الحدّ؟
ـ حتى عبارة «فلاسفة عرب» علينا وضعها بين مزدوجين، غالبيتهم مشتغلون في الحقل الفلسفي، لا فلاسفة فعليين لهم رؤاهم ومشاريعهم الفكرية.
عرفنا الفلسفة عبر الترجمات الأولى للنصوص اليونانية وتم توظيفها في بلورة المشروع القرآني وهو ما أسلم الفلسفة. ثم بدأت بعض الأسماء بالتميّز وطرح آراء خاصة مثل ابن سينا والرازي والفارابي وابن رشد، ولا تنتهي الأسماء مع ابن خلدون.
الحداثة تكاد تكون غربية بشكل مصفّى، من نيتشه إلى فوكو وفرويد وآينشتاين وبيكاسو ودالي وإليوت وأراغون. في هذه اللعبة الانقلابية، كان العرب مجرّد مشاهدين، يقلّدون حيناً، ويحاولون بناء هويات خاصة في بعض الحالات. وهنا ألفت إلى محاولة أدونيس لخلق رابط بين الصوفية والسريالية، محاولة منه لإدخال شيء من ثقافتنا في جسم الحداثة. تخصيب لم ينجح. عموماً لم يسلم أدونيس من قلم عبد القادر الجنابي الذي أصدر كتيّباً تحت عنوان «السوقية والسريالية».
لعلّ البعض من «المتدينين» سيتناولون حوارك مع رنا حيدر، عندما وضعت النقاط في مكانها الصحيح من دون مواربة، سينبرون للدفاع عن نظرياتهم «الدينية» التي اعتادوا التلطّي وراء اصبع زيفها. أنا من منظوري وجدت أنك تفكر بشكل عمودي من دون تسويف، هل أنت مستعدّ لتلقي مثلاً تهمة العبث إذ لم يقولوا إنّك خرجت عن الطريق القويم؟
ـ سأبدأ من حكم تخطّاه الزمن، لكن روحيته لا تزال مسلّطة فوق رقبة كلّ من أراد التفكير خارج النسق. أعني به حكم الردّة حيث يتم قتل المرتدّ حتى لو لم يعلن هو ذلك. فقط تستطيع أن تستشفّ فكرة مغايرة عند الشخص حتى تنطلق منها لتصدر عليه حكماً بالخروج عن الدين. العقلية الإقصائية عنصر ملازم للفكر الديني على عكس الادّعاء بالمحبّة والسماحة والسلام وكلّ ما يزيّنون به اللافتات في الأعياد.
شخصياً، أعتبر أن تراثنا يحتاج إلى هدم وإعادة بناء على أسس صحيحة، وهذا لا يتم إلّا بقرار واعٍ وجريء وعلى مراحل. لن تعود هذه «الأمة» إلى الحياة إذا لم يعزَّز النقد الذاتي والتفاعل مع الحاضر، وقبول الآخر أيّ آخر.
على مستوايَ الشخصيّ، أؤمن أنّ أيّ تجديد يحتاج إلى «كاميكاز» فكريّ جاهزٍ لتلقّي الاتّهامات والشكوك والتخوين والتكفير، وأنا لستُ حالة متفرّدة، وما أقوله قد قيل من قبل بطرق مختلفة. عموماً أقوم بواجبي كمنبّه، أمرٌ شبه غريزيّ.
الدمج بين الميثولوجيا كَعِلم للأساطير القديمة والسيميائية كَعِلم للدلالات والعلامات، في «الميثوسيميا» الجديدة أين وضع حمّود بصمته؟
ـ «الميثوسيما» مصطلح قمت بنحته لبناء صورة ذهنية مكثّفة لعملية التحريف التاريخي الذي يستفاد منه لخدمة الواقع، أحياناً للخير العام وأحياناً للشرّ العام. لكنّ «المصلحة» هي الأساس، وبلا أخلاقيات حتى. «الميثوسيميا» تعتبر أنّ رموز التاريخ وأحداثه هي عناوين ميثولوجية دلالية تخدم الحاكم، والمؤسّسة الدينية، وصنّاع الرأي العام بمن فيهم رجال الأعمال والإعلام والإعلان. جُلّ ما يُقدَّم لنا وجبات من النفاق صيغت قرناً بعد قرن لتوائم الحاجة في كلّ زمان، وفي كلّ مرّة يُنظر إلى الرمز ذاته بعينٍ مختلفة.
من غير المجدي أن أحاورك من دون التطرّق إلى تجربة «حواس». «حواس» اليوم بعد ثلاث سنوات تقريباً من الضوء، أين… وإلى أين؟ عفوك… أنا أدرك أنّ عربتها لم تزل سائرة. والسؤال: ألم يهدأ الضجيج الذي نسمعه في غبارها؟
ـ بدايةً، «حواس» حملت تكثيفاً لشيء من كلّ شيء، صخب وتنوّع وأسماء وعالم التواصل الاجتماعي. أستطيع وصف هذه المرحلة بالإعلان والإشهار، تلتها مرحلة الإنتاج المرئي كمعارض، المكتوب كمجلّات وإصدارات، تبعتها جلسات حوارية مع شخصيات فكرية، وسبقتها زيارات تعارفية بين «حواس» وأحزاب وشخصيات ومبدعين. اليوم، مركز «حواس» ينظّم دورات رسم على مدار السنة، تتخلّلها معارض تشكيلية مكثّفة، وتواقيع كتب وندوات. لا بل قمنا بترشيح الإعلامية «الحواسية» نجلاء أبو جهجه للانتخابات النيابية كصوت من المجتمع المدني. «حواس» كرّست اسمها وثبّتته. اليوم نحن أكثر عملاً وأقلّ جلبة.