أنزور: الإرادة هي التي تكتب النصر… ومحور المقاومة يلامس وجدان الناس كمال الدين: سورية عمرها من عمر الحضارة… وأرضها لا تموت
عبير حمدان
كيف لنا أن نختصر الوطن ضمن دائرة محاصَرة بالموت من الجهات كلّها؟ وكيف نكتب التفاصيل اليومية لمن يحفر الأرقام المعدنية على الثرى التي تضمّ رفاق السلاح، كي يحفظ لهم درب العودة إلى أهاليهم ولو لفّتهم الأكفان؟
هو مشهد صغير من ساحة الصراع بين النور والظلام، بين المؤمنين بأن الحياة كلّها وقفة عزّ، وأؤلئك المارقين على أرض ليست لهم يحملون راياتهم السوداء ويعيثون فيها فساداً وقتلاً وتكفيراً. هو فعل الوجود والمقدرة على «ردّ القضاء».
«حاتم» الذي لم يخلف وعده لوالدته هو الشاهد والشهيد الحيّ على إيقاع امتزاج المطر بتراب الخنادق، يدرك أنّ النصر ينبت من نجيع رفيق سلاحه «جعفر» وصمود «وليام»، ويثق بأن قضبان السجن لا تُسقط وطنية السجين الذي يرفض تناول الخبز المغمّس بالدم، ويصرّ على حمل البندقية في وجه إعداء الوطن.
إنها الشام بكلّ تلواينها وعنفوانها وصبرها وصمودها، والتاريخ يكتبه من يتفوّق في صنعه، والعين تحفظ الصورة الحقيقية التي يعمل على توثيقها من اختار الفنّ الهادف رسالته لمواجهة المدّ الإرهابي التكفيري من موقعه. ولأنّ الحرب تتعدّى ساحة القتال بالحديد والنار، ويعتمد من سعى إلى إشعالها على التسويق الإعلامي والدرامي أحياناً لأفكاره الهدّامة، كان لا بدّ من مواجهته بالواقع ولو في إطار سينمائيّ وخطوط درامية تمزج بين الضحك المغمّس بدموع الصابرين والمدافعين عن وطنهم.
«ردّ القضاء»، فيلم للمخرج السوري نجدت إسماعيل أنزور، يؤرّخ لحصار سجن حلب المركزي، كتبت نصّه ديانا كمال الدين وشاركت في إخراجه. واستضافته مؤسّسة الرعاية الصحية والاجتماعية في الحزب السوري القومي الاجتماعي في عرضين متتاليين في مسرح المدينة، وكان العرض الأول بحضور المخرج والكاتبة والممثلين.
العرض الأوّل حضره حشدٌ من المدعوّين، تقدّمهم رئيس الحزب السوري القومي الوزير علي قانصوه، الرئيس السابق للحزب النائب أسعد حردان، وعدد من المسؤولين المركزيين، إلى جانب سفير سورية في لبنان عبد الكريم علي، ورئيسة مؤسّسة الرعاية الصحّية والاجتماعية في «القومي» مارلين حردان.
حضر الشرطي «حاتم عرب»، وخاطب بيروت التي اختصر تاريخها تصفيق الحضور ووقوفه حين خَتَم الفيلم مَشاهده بدخول الجيش السوري إلى سجن حلب وكسر الحصار عنه. عرب الذي شكر بيروت وأهلها بدا أكبر من كلّ ما نخطّه من مقالات وتحليلات، واستشرفنا النصر من فعل صموده على كرسيّه المتحرّك وتمسّكه بالوطن الذي سيبقى حرّاً وعصيّاً ببركة تضحيات الشهداء، ليرسّخ الزمن المقبل أن الحياة كلّها وقفة عزّ فقط.
أنزور: المقاومة في الصدارة
يؤكد المخرج نجدت إسماعيل أنزور أنّ المساهمة في بناء مداميك التصدّي لا تقتصر على ساحة القتال، إنما هناك دور فاعل للفنّ الحقيقي والهادف في تغيير المشهد. وعن رسالته التي بدأت قبل الأزمة وخلالها وصولاً إلى توقيعه فيلم «ردّ القضاء» يقول: نحن اليوم كسينمائيين وفنانين ومثقّفين لا يجوز لنا أن نقف متفرّجين ونتلقّى لاحقاً ما يحصل من نتائج. إنما يجب أن نساهم في تغيير المشهد، والتصدّي كلٌّ من موقعه لهذا الهجوم الشرس على وطننا وتاريخنا وحضارتنا. وهذا ما دفعني لأدخل مجلس الشعب لأن هذا الوطن يتشكل من جديد ويجب أن تكون لدينا مساهمة ودور في البناء على أسس متينة وثابته.
اختيار حصار سجن حلب كنموذج سببه أنه نموذج حيّ وواقعيّ لما يحدث في سورية. الحرب على سورية ليست حرب تكفيرية وإرهابية فقط، إنما هي حرب طائفية. وهذا النموذج اليوم هو ضدّ هذه الفكرة لأن حامية سجن حلب التي دافعت عنه ضمن جميع الأديان والطوائف. وحتى السجين رفض أن يحرّره الإرهابي ودافع عن السجن واعتبره وطنه.
لكن إلى أيّ مدى تتمكّن هذه الأعمال من نقل الواقع إلى المتلقّي يقول أنزور: من جهتي أعمل على التركيز على الحسّ الإنساني لا السياسي، لأنّ الأول باقٍ والثاني يتغيّر بحسب الظروف. وأجزم أنّ أعمالي نقلت الصورة الواقعية لِما تعيشه سورية منذ بداية الأزمة حتى اليوم.
وعن عرض الفيلم في بيروت يقول أنزور: يسعدني وجودي اليوم في بيروت المدينة الصامدة والمقاوِمة لعرض فيلم «ردّ القضاء» أمام شعب يدرك ما تعنيه السينما ويعرف الكثير عنها. ومن خلالكم أتوجّه بالشكر إلى مؤسّسة الرعاية الصحّية والاجتماعية في الحزب السوري القومي الاجتماعي على دعوتها وإتاحتها هذه الفرصة لنا وللجمهور الذي سيتعرّف إلى أبطال حقيقيين عاشوا أيام الحصار وصمدوا وانتصروا.
وحول جدلية القضاء والقدر والمقدرة على ردّ القضاء يقول أنزور: الإرادة هي التي تكتب النصر، ويجب ألّا نستسلم لفكرة القضاء والقدر. يمكننا أن نردّ القضاء والدليل أنها «فانية وتتبدّد». وفي كل دقيقة اليوم هناك كيلومتر يتم تحريره.
ونختم بالسؤال عن رؤية أنزور للمشهد السينمائي والدرامي بعد تحقيق الانتصار، ليجيب: سنرى سورية منتصرة وعالية، ومحور المقاومة في الصدارة لأنه المحور الحقيقي الذي يلامس وجدان الناس، وهو مطلب كلّ الجماهير في بلادنا، وما يحصل اليوم ما هو إلا شيزوفرانيا ستزول قريباً وقريباً جدّاً.
كمال الدين: الأرض التي لا تموت
ترفض الكاتبة ديانا كمال الدين منطق الاستسلام. وردّاً على فرضية مقدرتنا من خلال الفنّ على «ردّ القضاء» في ظل ما تشهده بلادنا، تقول: «ردّ القضاء» بحدّ ذاته سؤال مشروع، وجميعنا نعلم مقولة «اللهم لا أسألك ردّ القضاء إنما أسألك اللطف فيه» التي نتنازع عليها. وبرأيي نحن علينا أن نكتفي بترداد هذه المقولة إلى حدّ الاقتناع بها كلّياً إنما علينا على الأقلّ الدعاء إلى الربّ أن يردّ هذا القضاء. والأسئلة التي طرحها الفيلم ولم يُجب عليها إنما تُركت الإجابات للمُشاهد فهي: هل يا ترى أننا يجب أن نكون فقط مسيّرين ونقول هذا قضاء وقدر وكفى ونستسلم؟ أم نحارب ونتحمّل الجراح ونواجه لنردّ هذا القضاء؟ وهل يا ترى أسطورة سجن حلب ويوميات حصاره غيّرت هذا القضاء الذي كان في مناطق أخرى محتوماً؟ نحن طرحنا الأسئلة وتركنا للمُشاهد الإجابة عنها بعد مشاهدته الفيلم.
وعن مساهمة أعمال فنّية ضمن إطار التصدّي وتوثيق ما يحصل على الأرض في تغيير المشهد تقول كمال الدين: هذه الأعمال تساهم بقوة في تغيير المشهد ولكن مع الأسف فشلنا كماكينة إعلامية عربية بشكل عام وسورية بشكل خاص في التصدّي، في ظلّ الحرب التي بدأت ضمن إطار إعلاميّ وتحوّلت لاحقاً إلى ساحة حرب حقيقية. في ظلّ الأزمة لم نتمكن من المواكبة درامياً كما يجب، ربّما لأنّ الصدمة قيّدتنا في مكان ما، أو لأننا لم نتوقّع كلّ ما حصل من حوادث على الأرض. وقد تأخّرنا في ترجمة فعل التصدّي فنّياً على الأقل. اليوم وبعد سبع سنوات نجهد لترسيخ قواعد المواجهة وعسى أن نحقّق الهدف المنشود.
وتضيف في إطار متّصل: ربما بعد انتهاء الأزمة تصبح الرؤية أكثر وضوحاً، وقد نعيد فتح كلّ هذه الملفّات بعد انقشاع غبار المعركة. ولكن حينذاك، المنتصر هو الذي سيكتب التاريخ بالطريقة التي يريدها.
ولكن من سيكون المنتصر، تجيب: لا نعرف، هي أرض سورية التي عمرها من عمر الحضارة لا تموت، قد لا نعيش المرحلة المرجوة وقد لا يعيشها أولادنا، ولكن هذه الأرض ستبقى وهي أرض عطاء، ومن واجبنا اليوم ونحن في قلب الأزمة أن نترك للجيل المقبل مادة توثّق حقيقة ما حصل، طالما نحن قادرون على ذلك. وصدقيني إذا قلت لك إنه ليس بالأمر السهل أن تعملي على تلخيص سيرة كلّ الشخوص التي سترونها في الفيلم، وأنا اختصرت البطولة في شخص «حاتم عرب» الشرطيّ السوري الذي أصيب في السجن وبقي شاهداً على التفاصيل كافة.
أما عن بيروت التي تجمع التناقضات وتغيب رسمياً عن العرض فتقول كمال الدين: مهما كانت التناقضات تجمعنا الإنسانية. ونحن اليوم في بيروت لا لنخبر اللبنانيين عن الحرب وهمّ الأكثر دراية بماهية الحرب، نحن اليوم يمكننا أن نتعلّم منهم كيف نعيش بعد الحرب وكيف نتصالح مع الحياة وكيف يمكن أن نطوي هذه الصفحة ونكمل المسير. ولعلّ اللبنانيين أكثر من يعرف كيف هي الحياة بعد الحرب. يسعدنا أننا في بيروت وهذا الجرح ليس سورياً فحسب، إنما هو جرح إنسانيّ، وهذا الشعب أراد أن نكون هنا لذلك نحن هنا.
الحاج: سورية تلد المبدعين
تختصر الإعلامية سمر الحاج الواقع بسلسلة لا يمكن فصلها عن بعضها وعن الحدث فتقول: الحقّ يعلو ولا يُعلى عليه، وطالما تم ردّ القضاء في سورية سنشهد الانتصارات، ونحن ندرك أنّ دماء الشهداء من مختلف انتماءاتهم الحزبية لم تذهب سدى. لولا حماة الديار وأبطال المقاومة وشهداء «نسور الزوبعة»، شهداء الحزب السوري القومي الاجتماعي العِظام. لمّا كانت حلب، ولولا حلب لما كانت سورية ولولا سورية لما بقيت المقاومة، وبالتالي الحقّ سيعود إلى أصحابه في كل مكان من أرض الشام.
وعن هذا النوع من الفنّ تقول الحاج: هذا النوع من الفنّ خطير وقادر على الوصول إلى الناس بسهولة، خصوصاً إذا كان من توقيع المبدع نجدت اسماعيل أنزور الذي لم يبدّل تبديلاً. هو آمن بقضيته ولم يضيّع البوصلة، وإبداعه سبق الأزمة واستشرفها وأخبرنا عنها. هذا النوع من الفنّ السهل الممتنع يصل إلى الوجدان، وهو أخطر وسيلة وسلاح يمكن استعماله لردّ الغاصب الصهيوـ وهابي. بكلّ صراحة، هذه المدرسة التي يجب أن نجهد لتدميرها مهما ملكت من أموال تنفقها خدمة لحربها الإعلامية، وبوجود مبدعين أمثال الكبير نجدة اسماعيل أنزور لا نخشى على الضمير، وسورية ولّادة وعلى مبدعيها نعقد الأمل الكبير.
فضّة: محاولة فنّية لردّ القضاء
يرى الممثل مجد فضة أنّ الفنّ قادر على إيصال الصورة الحقيقية بما تضمّه من وجع، إذا ما كان من يمتهنه مسؤولاً. وعن مشاركته في الفيلم يقول: ما نقدّمه عبارة عن محاولة فنية لردّ القضاء، من موقعنا كممثّلين نسعى ومن قلبنا لأن ننقل الصورة الحقيقية لما عاشه أناس ضحّوا بحيواتهم لأجل معتقدهم الوطنيّ وخارج أيّ إطار سياسيّ أو حزبيّ. ما قدّمته من خلال دوري موجع، ومسؤولية كبيرة. وصدقيني إذا قلت لك إنّ ما سترينه جزء صغير جداً من حجم المعاناة الحقيقية التي عاشها من كانوا محاصَرين في سجن حلب.
ويضيف في إطار متّصل: لا يمكن لأيّ عمل فنّي أن ينقل المشهد بواقعيته مهما جهدنا في ذلك، والصدق في الأداء هو فرصتنا الوحيدة لتوثيق الواقع ولو بمشهدية درامية أو سينمائية، على أمل أن ننجح في تغيير المشهد الدامي من موقعنا كممثّلين.
علي: وثيقة حيّة
يرى الممثل عامر علي أنّ فيلم «ردّ القضاء» بمثابة وثيقة حيّة لجزء ممّا شهدته سورية. وعن عرضه في بيروت بدعوة غير رسمية يقول: أفهم هذا الأمر نوعاً ما من الناحية السياسية، إذ إنّ الفيلم يتكلّم عن بطولات الجيش السوري والشرطة في مواجهة الإرهابيين، وبما أن الآراء السياسية في لبنان متباينة وهناك من يسعى إلى تجنّب الدخول في هذا الصراع، أتت الدعوة خارج الإطار الرسمي. وقد نختلف في رؤيتنا لما يجري على الأرض، لكنّ «ردّ القضاء» لامس الذات الإنسانية في كلّ الأمكنة التي عُرِض فيها، لأنه حقيقي ولأنه يتناول تفاصيل نعيشها منذ بداية الأزمة، في لحظة ما أصبح السجن هو الوطن وسقطت كل الاعتبارات، سجن حلب اختصر سورية بكلّ ما تعانيه، وجميع من فيه أبناؤها، وحين أُنهِي حصار سجن حلب نال هؤلاء السجناء العفو العام واستحقّوه على تصدّيهم للإرهاب الذي لا يحمل إلا الموت والخراب.
إذاً، استطاع الفيلم أن يردّ القضاء ولو فنّياً؟ يجيب علي: الفيلم نقل صورة، وهو حاول أن يردّ القضاء، لكنّه جزء من سلسلة لِما حصل في «مستشفى الكندي» و«مستشفى حلب» وفي كافة هذه الأماكن كانت هناك محاولة لردّ القضاء. في سجن حلب أناس ظلّوا أكثر من تسعة أيام بلا طعام، وعانوا من البرد والحرّ والمرض والظلام وكانوا يودّعون رفاقهم واحداً تلو الآخر حيث حمل الشهداء الأرقام، لكنهم لم يستسلموا. وهنا تكمن الرمزية في الإشارة إلى البلد بكامله. أنا أدّيت دوراً في العمل وكان الأصعب من ناحية المسؤولية الملقاة على عاتقي لإيصاله إلى المتلقّي بصدق كي يعرف الجميع ماذا حصل في سجن حلب خلال أيام حصاره.
إسماعيل: رسالة إنسانية
يتحدّث الممثل لُجين إسماعيل عن دوره في الفيلم مؤكّداً أنه ليس بارعاً في الكلام، لذلك يكتفي بالتمثيل كوسيلة للتعبير، ويقول: مِن جهتي لست بارعاً في الكلام وأركّز على التمثيل كوسيلة لإيصال ما أريده. في الفيلم أنا «الملازم أوّل جعفر» الذي عاش يوميات الحصار وتصدّى للإرهاب، وحاول التركيز على التفاصيل الإنسانية والابتعاد عن الظروف السياسية التي نعرفها جميعاً. ولا أعرف إذا تمكنّا من إيصال الرسالة، ويبقى الحكم للمُشاهد.
ويضيف في إطار متّصل: قبل مشاركتي في الفيلم كنت أظنّ أنّني أعرف ما الذي حصل في سجن حلب، لكنّني اكتشفت أنني لا أعرف شيئاً، وكلّ ما نقوله من موقع بعيد عن الحدث يسقط أمام لحظة واحدة نكون فيها في قلب الحدث ولو بإطار سينمائيّ.
وعن مدى تفاعل الناس مع هذا النوع من الأعمال يقول: حين نقدّم الصورة الحقيقية للناس سيكون تفاعلهم قوياً. ومن جهتي حين قرأت النصّ قلت للمعنيّين بالأمر إنّ هناك مبالغة في الطرح، ليأتيني الجواب أنّ ما بين يديّ يستند إلى روايات واقعية على لسان من كان في سجن حلب أيام الحصار. لذا، أثق بأنّ كلّ من سيُشاهد الفيلم سيتفاعل معه وسيدرك حقيقة ما حصل هناك.
يذكر أنّه بعد العرض الأوّل، قدّم رئيس الحزب السوري القومي الوزير علي قانصوه درعاً تقديرية للكاتبة ديانا كمال الدين، كما قدّم الرئيس السابق للحزب النائب أسعد حردان درعاً تقديرية للمخرج نجدت اسماعيل أنزور، فيما قدّم سفير سورية في لبنان عبد الكريم علي درعاً للشرطيّ البطل حاتم عرب.