فوضى الدبلوماسية الأميركية يُمهِّد لمأزق استراتيجي
د. رائد المصري
لم تكن صدفة المقالة التي نشرها الصحافي الأميركي سيمون هيرش مؤخراً، والتي كشف فيها أنَّ الرئيس الأميركي دونالد ترامب كان يعلم بأن الطائرات السورية لم تستخدم السلاح الكيماوي في خان شيخون في نيسان الماضي، ومع ذلك أقدم على ضرب صواريخ التوماهوك على مطار الشعيرات العسكري السوري.
هذه المعلومات تُعَدّ كافية لا بل فضيحة كبرى يُثبت فيها بأنَّ ترامب هو رئيس كاذب وصورة منقَّحة عن جورج بوش الإبن الذي غزا العراق عام 2003، وقتل أكثر من مليون شخص وأعاق وجرح عشرات الآلاف منهم، ودمَّر الدولة العراقية، ووضع أسس التقسيم فيها، وحوَّلها دولة فاشلة بعد أن حطَّم بنيتها التحتية، وجعل ومَكَّن فيها التنظيمات الراديكالية الإسلامية المتطرِّفة من نشر الفوضى بحجَّة أكذوبة أسلحة الدمار الشامل التي كان الرئيس صدام حسين يُخفيها عن المفتشين الأمميين.
دعونا نقيِّم العمل الديمقراطي الذي يحكُم مؤسسات الغرب، وفي الولايات المتحدة بالتحديد، ومن دون الإشارة لأكاذيب رئيس الوزراء البريطاني السابق طوني بلير، وارتكابه أخطاء وقرارات قاتلة بحق العراقيين منذ عام 2003، وما شابت مرحلة حكمه من كذب وتدجيل وإسفاف، كشفتها الصحافة الإنكليزية وعرَّته أمام الرأي العام، فنحن كعرب وكشعوب تحمَّلت ولا زالت تتحمَّل مآسي ونتائج هذه السياسات الاستعمارية الغربية القاتلة، ما نفعنا من اكتشافات الأكاذيب التي ارتُكبت وجزَّرت على أثرها في مجتمعاتنا، إذا انقشع زيفها وكذبها أمام الرأي العام الغربي أو العربي الإسلامي؟
فلو كان هناك من ديمقراطيات صحيحة، لكان انكشاف مثل هذه الأكاذيب التي استخدم فيها سلاح صواريخ التوماهوك المجنَّحة ضد بلد مستقل وذي سيادة مطار الشعيرات في سورية والذي شكَّل مخالفة فاضحة للقانون الدولي، أقلّه كان سيؤدي حتماً الى إسقاط الرئيس أو إجباره على الاستقالة، لكننا في بلاد تحكمها الدولة العميقة ومجموعات ضغوط اللوبيات القوية صاحبة النفوذ ومنظمة آيباك، واحتكارات النفط والسلاح وحقد التلمود الصهيوني المسيحي وغيرها. وهنا لا مكان فيها لرأي عام قوي ولا لأي أبعادٍ أخلاقية في السياسات الخارجية الاستعمارية والشواهد التاريخية كثيرة على ذلك…
لقد ضاعت الدبلوماسية اليوم وقواها الفاعلة ليس في الغرب ولا الولايات المتحدة فحسب، بل في كلِّ المجتمع الدولي وحتى على مستوى الإقليم، وتمَّ معها تقطيع كل شعرة للتواصل في أيِّ أزمة تُطرح بين الدول، خصوصاً بعد الذي رأيناه في أزمة دول الخليج المستجدَّة بين قطر ونظيراتها الخليجيات ومصر، ومعها ضاعت دبلوماسية أميركا وقوة دفعها الناعمة والخشنة، وبات واضحاً معها أكثر تجلِّي السبب في فهم هذا التخبُّط في قرارات ترامب بحق الدولة السورية، في افتراضات كاذبة ومزعومة حول ضرب الكيماوي واستخدامه والتهديدات التي رافقت هذا التمهيد الإعلامي، وهو ما يتطلَّب رؤية مجموعة من التطورات التي تمثَّلت بالانتصارات العسكرية والميدانية المهمة التي أحرزتها سورية وجيشها والحلفاء في منطقة البادية، وضربهم للخطوط الحمر التي أرادها الأميركي وتحريرهم أجزاء واسعة من الحدود السورية العراقية وربط خط طهران بغداد ودمشق برياً، كذلك تقدُّم الجيش العربي السوري صوب دير الزور وتحرير العديد من آبار النفط والغاز فيها والتقدم الميداني في منطقة درعا، وأخيراً وليس آخراً فشل هجوم جبهة النصرة الذي قامت به على مدينة البعث في جنوب سورية بدعم صهيونيٍ مباشر.
تطورات ميدانية مهمَّة بأبعادها الاستراتيجية شكَّلت خطراً على مصالح الكيان الصهيوني، وألْمح إليها السيد حسن نصر الله في خطابه الأخير حول أيِّ حرب مقبلة تريدها «إسرائيل» ومن خلالها لضرب المقاومة في لبنان وغزة، ستشهد تدفقاً لمئات آلاف المقاتلين من دول محور المقاومة، وهو حتماً سيغير المشهد الاستراتيجي. وهذا ما أزعج وحرَّك جنون الرئيس الأميركي في تسعير خطاباته وتهديداته ضد سورية الدولة.
إنّها رسالة عسكرية وسياسية ردعية أعتقد أنَّ الأميركي فهم مضامينها، حيث قرَّر ترامب على أثرها بالتلويح للقيام بعمل عسكري ضدَّ الجيش العربي السوري وبما يُعيد خلط الأوراق السورية من جديد، من أجل الحصول على مكتسبات لابتزاز روسيا وسورية والحلفاء لمصلحة «اسرائيل» والمشروع الأميركي في الجغرافيا السورية، وإعادة موازين القوى الى الوراء لمصلحة الجماعات التكفيرية المسلحة التي انفرط عقدها، وباتت بعد أزمة الخليج بين قطر والسعودية وتخلّي واشنطن عن دور تركيا لصالح الدور الكردي في الشمال السوري، تعاني من أزمات وجودية تقذفها في المجهول.
الإدارة الأميركية الجديدة برئاسة ترامب تعاني من أزمات داخلية خطيرة وأزمات خارجية ومشاكل مع حلفائها الأوروبيين ومع الحلفاء في الناتو، وتعاني كذلك من تصدُّع في منظومة دول الخليج على أثر تفاقم الصراع والسيطرة والنفوذ، ومن هزيمة المشروع الاستعماري في سورية، بحسب ما يُدلي به كلَّ يوم سياسيون ودبلوماسيون أميركيون بأنَّ اللعبة في سورية انتهت، فلم يعد فعلاً بمقدور إدارة ترامب فعل شيء لوقف ذلك.
وفي مجمل القول نعتقد بأنَّ اللعبة الاستعمارية في سورية وفي دول المشرق قد انتهت. فمن خلال مراقبة الأحداث لثماني سنوات مضت نتأكَّد بأنَّ روسيا صارت قطباً أساسياً وازناً مع الولايات المتحدة، وتأطَّر ذلك من البوابة ومن الصراع في سورية.
وبالتالي ليس مسموحاً تغيير المعطيات الميدانية والعسكرية كلها في سورية بعد اليوم، وإيران وحزب الله وبقية الحلفاء الموجودين على الأرض السورية لن يسمحوا أبداً لأميركا بأن تُعيد عقارب الحرب والانتصارات الى الوراء.
يبقى أن نشير إلى مدى قدرة وقوة هؤلاء المستعمرين وأدواتهم الإقليمية التي فقدت أيَّ عمل دبلوماسي يمكن أن يرمِّم الأوضاع التي تصدَّعت لحماية الكيان الصهيوني وإنقاذه، والذي يبدو أنَّ دوره الوظيفي بدأ بالتآكل في ظلِّ القوة العسكرية والحضور الإيراني وتعاظم قوة ودور المقاومة في لبنان وغزة، وتحقيق التوازن الرَّدعي الفعلي، ممَّا يجعل الحاجة لحمايتها ضرورة وضرورة قصوى. وهنا رأينا كيف يتمُّ تقديم أوراق الاعتماد الجديدة والاستقطابات الحادة على مستوى دول الإقليم خدمة للأميركي ولمشروعه الاستعماري من دون أيِّ تكلفة أو عناء.. لكننا ننتظر وننظر ونعتمد على عناد وجنون وعنصرية الغرب ورأس حربته الكيان الصهيوني….
أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية