كلام نصرالله ولا أخلاقية الردود
ناصر قنديل
– منذ بدأت المقاومة كفاحها وسط استسلام سياسي لبناني لقدر الاحتلال، وفي أحسن الأحوال استسلام للعجز عن ردّ هذا القدر بغير التعلّق بحبال العلاقات الدولية التي لم تُسمن ولم تُغنِ عن جوع، والصف السياسي الذي نأى بنفسه عن خيارها يطلق عليها سهام التشكيك في لبنانيتها، حتى تجرأ بعضهم على التحدّث عن الحاجة لمشروع لبننة حزب الله الذي تصدّر مشهد حركة المقاومة منذ التسعينيات في القرن الماضي. ولم يخلُ هذا الخطاب التشكيكي من تصوير المقاومة لسنوات مؤتمر مدريد للسلام والمفاوضات السورية «الإسرائيلية» التي استمرت حتى قبيل تحرير الجنوب عام 2000، كمجرد ورقة ضغط لتحسين الشروط السورية للتفاوض مع «إسرائيل». ولم يكلّف أحد نفسه بعد التحرير قول كلمة عن حقيقة أنّ الجنوب اللبناني قد تحرّر بفضل هذه المقاومة التي دعمتها سورية، بينما بقي الجولان السوري محتلاً، وكانت آخر جولة تفاوض بين الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد والرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون قد جرت في جنيف في نيسان عام 2000، أيّ قبل الانسحاب «الإسرائيلي» من جنوب لبنان بشهر واحد، وفيها قدّم كلينتون عرضاً للرئيس الأسد قوامه ربط الجولان وجنوب لبنان بانسحاب «إسرائيلي» يسمّى منسقاً من الجنوب وبدء مفاوضات الانسحاب من الجولان حتى الحدود الدولية، وربط النزاع أمام محكمة لاهاي حول المتبقي من حدود العام 67 أسوة بما حدث حول طابا مع مصر، وتعهّد أميركي بنشر قوات رقابة دولية أميركية روسية في المنطقة المتنازع عليها، والذي رفض العرض وأصرّ على فرض نصر المقاومة نظيفاً من أيّ شبهة تفاوض هو سورية بشخص رئيسها الراحل، كما فعل الرئيس بشار الأسد في حرب تموز عام 2006، عندما قدّم كلّ شيء للمقاومة، وقرّر دخول الحرب، لكنه وضع التوقيت بيد قائد المقاومة السيد حسن نصرالله، لتقطف المقاومة وحدَها ثمار نصر نظيف جديد ما دامت قادرة على الصمود والقتال.
– بالعلاقة مع سورية كانت المقاومة حليفاً، لكن الذي تحرّر هو الجنوب وبقي الجولان، وفي العلاقة مع إيران ألصقت بالمقاومة تهمة الطعن بلبنانيتها كأداة إيرانية وربط كفاحها ومسخ تضحياتها، ليصوّر كلّ ذلك مجرد تحسين لشروط إيران التفاوضية في ملفها النووي، وانتهت حروب المقاومة، مرتين بانتصارات واضحة ولم يكن الملف النووي الإيراني قد حُسِم، ولم يخلُ موقف المقاومة من رئاسة الجمهورية ودعم ترشيح العماد ميشال عون من مثل هذا التشويه، رغم أنّ الآخرين الذين يتهجّمون عليها اليوم جاءوا إلى خيارها، لكن أحداً منهم لم يقل إنّ الملف النووي الإيراني انتهى وبقي موقف المقاومة من ترشيح العماد عون ثابتاً ولم يحضر كورقة تفاوضية على الطاولة.
– أن يبلغ لبنانيون قمة التضحية من أجل بلادهم ويقدّمون أغلى ما يملكون، ثم يسائلهم أبناء بلدهم عن هويتهم، ويطعنون بلبنانيتهم ليس مجرد ظلم، بل تطاول وادّعاء لا يحق للذين تخاذلوا عن قتال الاحتلال مواجهة الذين قاتلوه، أياً كانت أسبابهم وأعذارهم لعدم القتال. وإذا كان المبدأ العام الجامع لأبناء البلد الواحد يفرض أن يتجنّب كلّ منهم طرح وطنية الآخر كانتماء وحرص على صالح بلدهم، على طاولة الاشتباك السياسي، فإنّ سقوط هذا المبدأ قد يبيح للذين قاتلوا وحرروا من الاحتلال أن يضعوا في الميزان وطنية الذين لم يقاتلوا وليس العكس، بخاصة أنّ الذين لم يقاتلوا كانت لهم اليد في كلّ وجود غير لبناني في لبنان، فمنهم من عاش زمن التنسيق مع الوجود الفلسطيني الذي كان نصف اللبنانيين يراه غريباً ويقاتله على هذا الأساس، ونصفهم الثاني ارتاح لـ«الإسرائيلي» ومعه، وكلاهما لا يحق له الحديث عن الوجود السوري وادّعاء البطولات السيادية، وقد كانوا إما منتمين لأحزاب سعت إليه للاحتماء ودعته واستدعته في ذروة جولات الحرب الأهلية قبل أن تنقلب عليه بقوة التدخل «الإسرائيلي»، أو انتمت لتيارات وعملت تحت راية زعامات تنعّمت بعائداته السياسية والاقتصادية في سنوات ما بعد اتفاق الطائف.
– مناسبة الحديث ما قاله قادة وساسة وشخصيات بحق كلام السيد حسن نصرالله عن خطر حرب «إسرائيلية»، مهدّداً «الإسرائيليين»، بفتح الحدود والأجواء للآلاف ومئات الآلاف من المقاتلين، ومعلوم لكلّ مَن استمع لكلام السيد أن الأمر غير مطروح إلا بسياقين، الأول فرضية ردع العدو عن الحرب، الثاني في حال وقوع الحرب، وكان مدهشاً خلوّ كلّ التعليقات المعترضة من أيّ إشارة لهذين السياقين. ومَن تحرّكه المشاعر السيادية الفياضة لا يتجاهل خطر حرب «إسرائيلية»، وإنْ كان يستبعدها فيكفيه أنّ كلام السيد مرتبط شرطياً بحدوثها، وإنْ كان يضعها في خانة الاحتمالات، وجب عليه سؤال نفسه مراعاة حسابات ما سيقوله «الإسرائيلي» في سرّه لدى سماعه، هل سيفرح ويرتاح، أم يخشى وحدة اللبنانيين، وتماسك جبهتهم؟ والمطلوب ليس قبول كلام السيد من مخالفين للمقاومة، ولكن ردودٌ تراعي هذا الاعتبار الأخلاقي والوطني، وبالرغم من أنّ أحداً من المتحدّثين ليس إلا منتحل صفة عندما يقول إنه يتحدث باسم الدولة والشعب اللذين بالكاد يمثل منهما بعضاً من حجم ما يمثل السيد، وعلى سبيل المثال نتساءل لماذا لم نسمع أحداً يقول، لن تحتاج يا سيد إذا وقعت الحرب لمتطوّعين غير لبنانيين وها نحن نقول لـ«الإسرائيليين» على الملأ ستواجهون وحدة لبنانية متماكسة وراء الجيش والمقاومة وسترون الشعب يلبس الثياب العسكرية ويقاتل ضمن صفوف جيشه أو مقاومته، وبوجود هولاء من مئات الآلاف لن نحتاج لمتطوّعين؟
– مؤسف أن نشعر أنّ في لبنان كل خلاف في الرأي السايسي، أو حسابات لاعتبارات التحالفات الخارجية، تطلق الألسنة بلا رادع، فتنتهك الاعتبارات الوطنية والأخلاقية من دون أن يرفّ لمن يفعل ذلك جفن، وهو يتطاول على قامات ومقامات، ويمنح نفسه حق منح صفة الوطنية ونزعها، كأنّ ثمة مأمور نفوس في داخل كلّ واحد، والآخرون مجرد طالبي تجنّس.