خانوا الزعيم… والخيانة كانت مبيّتة من البداية مؤامرة التسليم تمّت بإرادة أجنبية نفذتها أياد داخلية

اياد موصللي

كنا خلال هذين اليومين قلقين يتناهشنا التساؤل هل صحيح ما سمعناه أثناء التحقيق عن اعتقال الزعيم في دمشق؟ أسئلة كنا نبدّدها ونعتبرها مجرد إشاعات وأقاويل يردّدها الخصوم..

في يوم 7 تموز جاء نائب الضابط اللئيم يوسف عبد الساتر، وقف على فتحة باب القاووش وقال: «يا كلاب كمشنا زعيمكم ورح يعدموه وستلحقون به وذهب». نظرنا لأنفسنا واجمين متسائلين هل هذا صحيح؟ هل اعتقل زعيمنا وهل سيُعدم؟ تناهشتنا هذه الأسئلة، استبعدنا الأمر ولكننا قلقنا، نسينا أنفسنا، نسينا ما ينتظرنا، وبدأنا نفكر بالزعيم بسلامته ونسينا جراحنا وآلامنا لنفكر بمصير زعيمنا وقائدنا، بعد ساعات جاء خفير دركي اسمه ابراهيم شحاده عرفت في ما بعد أنه من بلدة شحيم، أطلّ من الشرفة فشاهدني وأشار إليّ فجئت نحوه وبوجوم وحزن قال لي قبضوا على الزعيم ودمعت عيناه، وعرفت في ما بعد انه قومي اجتماعي، هالني الخبر وركضت نحو الرفقاء الذين وقفوا مستفهمين وأخبرتهم بما قال الخفير، سيطر علينا صمت عميق وسكون طويل تمالكنا بعده جأشنا وعدنا لحقيقتنا، دماؤنا هي لأمتنا متى طلبتها وجدتها وزعيمنا قائدنا وقدوتنا، ولكننا رغم إيماننا بهذا بقينا بين مصدّق ومشكّك بالخبر. في نفس اليوم نقلنا من مكاننا المنعزل إلى مكان آخر في السجن.

نقلنا إلى البناية رقم 3 ووضعنا في القاووش رقم 3 وكان واسعاً جداً وفارغاً، وضعونا فيه وأعطوا لكلّ واحد منا بطانيتين دون فراش أو وسائد. أفكارنا مشوّشة ينتابنا قلق عميق، ما هي أخبار الحزب؟ ما هي أخبار الزعيم؟ بقينا على هذه الحال بين حديث وصمت إلى أن جاء دركي بنفس اليوم ونادى على رفقائنا محمد شلبي سليم سالم، عبد الهادي حماد، اميل رفول، رجاء مسالمي، ادمون كركور، عساف أبو مراد، عبد العزيز صندوق، اومير توما، إياد موصللي، بعد أن أخرجونا أخذوا رفقاءنا الستة الأوائل.

أعادونا إلى القاووش وعلمنا في ما بعد انهم أخذوهم إلى حيث يوجد الزعيم ليكونوا شهوداً هناك، وعلمنا أيضاً انّ رفقاءنا بعد إدخالهم شاهدوا الزعيم واقفاً ففوجئوا وأصابهم الوجوم. أوقفوهم في جهة جانبية مقابل الزعيم وسألهم المحقق هل تعرفون هذا الرجل الواقف هناك وأشار إلى سعاده، جاءه الجواب نعم انه الزعيم سعاده وهتفوا يحيا سعاده. وكان صوت الرفيق ادمون كركور جهورياً مرتفعاً، ثم جاء السؤال الثاني: بماذا أوصاكم سعاده وماذا قال لكم لكي تهاجموا المخافر وتقتلوا رجال الدرك، فردّ الرفيق محمد شلبي قائلاً: بالعكس لقد أوصانا بهم وقال انهم اهلنا وإخواننا ولبنان هو بلدنا، كانت المحكمة تريد استدراج رفقائنا لأخذ اعتراف يؤكد انّ سعاده وزع السلاح على القوميين لارتكاب أعمال عنف، وهو أمر لم يعترف به أحد منا أبداً، لا أثناء التحقيقات ولا أثناء المحاكمات. كانوا يودّون تغطية ما خططوا له وتآمروا عليه وارتكبوه في ما بعد…

رفقاؤنا بعد أدائهم الشهادة لم يعيدوهم حيث نحن موجودون ولم نلتق بهم بعد ذلك إلا أثناء المحاكمات في 16 تموز، وقتها سألت محمد شلبي عما جرى معهم فروى لي ما ذكرته عن هذا الموضوع، كلّ ما وصل إلينا داخل السجن عن الزعيم وأخباره كان همسات وأقاويل بأنّ الزعيم سلّم إلى لبنان بعمل غادر قام به حسني الزعيم رئيس جمهورية الشام، وتأكد لنا الأمر بعد ان أخذوا رفقاءنا الستة ولم يعيدوهم وتردّد أنهم رأوا الزعيم عندما واجهوهم به كشهود وأخذوا التحية له عندما رأوه.

وقعت الخيانة وسلّم الزعيم ليُقتل وفي ظنّ المتآمرين أنّ مقتل سعاده سيدمّر الحزب وينهيه، ولكن سعاده قال وأثبت ما قاله: «انّ موتي شرط لانتصار قضيتي»، «أنا أموت أما حزبي فباقٍ…» وبقي الحزب تحرسه عقيدته وبقي القوميون تقودهم وتصون وحدتهم المبادئ التي وضعها سعاده وقاعدتها الأساسية لا تخافوا الحرب بل خافوا الفشل، وليس عاراً ان ننكب بل العار كلّ العار أن تحوّلنا النكبات من جماعة قوية إلى جماعة ضعيفة منهارة».

انّ التآمر على سعاده أوسع وأكبر من حسني الزعيم ومحسن البرازي ورياض الصلح وبشارة الخوري ومجيد أرسلان وكميل شمعون وعادل أرسلان وحبيب أبو شهلا وبيار الجميّل… هؤلاء أدوات تنفيذ… انّ الذي وضع مخططات سايكس- بيكو وقسّم سورية إلى دويلات عنصرية، طائفية وزرع روح التفرقة في الأمة وأطلق وعد بلفور ورسم سياساتنا التعليمية وبرامجنا التربوية وهيأ القيادات التي تحكم وتبصم وتبيع فلسطين كما باعت الاسكندرون والذي جعل جيوشنا لأداء دور شرطة محلية وحضر رجال الإعلام والدين والاقتصاد لأداء دور مزيّف غير دورهم المعبّر عن الرسالة في سموّ تعاليمها ونقاء مضمونها ورسم طريقنا لمئات السنين وحدّد لنا أسلوب عيشنا وتنسّمنا للهواء، هذه القوة الجهنمية الماسونية التلمودية لن تسمح لأحد ان يخرّب ما بنت ورسمت وخططت، وأنطون سعاده ضوء انبعث في حلكة ظلمة هذه الأمة، حدّد هويتها بعد ان شوّهوا تاريخها ورسم طريق نهضتها ووحدتها وقوتها، وحدّد الامراض التي تنهش وحدتها دينيا وقومياً: «كلنا مسلمون لرب العالمين منا من أسلم لله بالقرآن ومنا من أسلم لله بالإنجيل ومنا من أسلم لله بالحكمة وليس لنا من عدو يقاتلنا في ديننا ووطننا إلا اليهود»، وهو الذي قال «انّ الغرض الذي أنشئ له الحزب غرض أسمى هو جعل الأمة السورية هي صاحبة السيادة على نفسها ووطنها، نحن نبني أنفسنا حياة وحقاً، نبني انفسنا زحفاً وقتالاً في سبيل قضية واحدة هي قضية أمة لا قضية أشخاص، نحن لسنا أمة حقيرة قليلة العدد فقيرة الموارد معدومة الوسائل نحن أمة عظيمة قوية بمواهبها، غنية بمواردها، نشيطة بروحها. لم آتكم مؤمناً بالخوارق بل أتيتكم مؤمناً بالحقائق الراهنة التي هي أنتم، أتيتكم مؤمناً بأنكم أمة عظيمة المواهب جديرة بالخلود والمجد وإذا لم تكونوا أحراراً من أمة حرة فحريات الأمم عار عليكم».

ايّ جاهل فاقد لعقله يرسم ويخطط ويهيّئ وينفذ ما رسم أعداء الأمة لتحقيقه ونقله إلى الواقع ثمّ يفاجأ برجل مثل أنطون سعاده، هو فكرة، قضية، إرادة، قرار، حزم، تصميم وتنفيذ، رجل ينشأ من رحم أمة أبت ان يكون التاريخ قبراً لها، أمة تؤمن بأنّ إرادتها هي فعل قضاء وقدر. هل سيترك هؤلاء الذين بنوا أحلامهم وجعلوها حقائق، متمرّداً مؤمناً نذر نفسه لتحقيق قضية تساوي وجوده؟ لا لن يتركوه أبداً فحرّكوا أدواتهم فكانت النكبة، ولكن الشهيد البطل القائد المعلم قال: «ليس عاراً ان ننكب ولكن العار أن تحوّلنا النكبات من أشخاص أقوياء إلى أشخاص ضعفاء، انّ العراك بيننا وبين القوات الرجعية لا يقف عند حدّ فكلما ازددنا نمواً كلما ازداد الضغط».

آمن واستشهد من أجل ما أمن به وقدّم دمه وهو الذي قال: «انّ أزكى الشهادات هي شهادة الدم، شهداؤنا هم طليعة انتصاراتنا الكبرى، قد تسقط اجسادنا أما نفوسنا فقد فرضت حقيقتها على هذا الوجود، ولن تزول. من أجل هذا ومن أجل ان لا يتحقق هذا تآمروا عليه وقتلوه.

مقدّمات سبقت رفع قناع التآمر

تأمّل هادئ، ودراسة متأنية بمجريات العملية الخيانية التي قام بها حسني الزعيم وحليفه فيها محسن البرازي، يتضح بشكل سافر انّ المؤامرة على الحزب والزعيم لم تحدث عندما استجاب حسني الزعيم، للتدخلات الخارجية ولطلب الملك فاروق، فإذا ربطنا الأحداث والوقائع بعضها ببعض توضحت صورة المؤامرة المبيّتة والمقرّرة، وانّ كلّ ما سبقها من تأييد ودعم ومؤازرة كان تغطية واستدراجاً للإيقاع بالحزب والعقيدة، فحسني الزعيم أتى انقلابياً كحركة سياسية محلية إنما أثبتت الوقائع المتلاحقة انّ لليهود والدول الغربية يداً مسبقة في التشجيع لهذا الانقلاب الذي وقّع قائده اتفاقية الهدنة الدائمة بين سورية و«إسرائيل»، منهياً بذلك حالة الحرب المستمرة… وهو أمر لم يتجرأ على الإقدام عليه أيّ مسؤول سوري قبله… وسعاده وحزبه هو العدو الأول لـ«إسرائيل» والصهيونية وهو أول من نبّه لهذا الخطر وحذّر منه قبل ان يصبح داهماً. كان حسني الزعيم متواطئاً ضدّ سعاده والحزب منذ البداية وأوقع الحزب وزعيمه، وكثراً من قادة سورية، في شرك المؤامرة والخداع، ولهذا فوجئوا بما حصل وأدّى لاستشهاد الزعيم قتلاً في سيناريو محاكمة مركبة لم يجر مثلها في العصور الغابرة. كانت ردّة فعل القادة العسكريين والسياسيين سريعة وعنيفة ضدّ الخونة تصحيحاً لمسار التاريخ…

هذه كلها عناوين المرحلة الخيانية وكلّ ما ذكرته ليس إلا مقدّمات سبقت رفع القناع واماطّة اللثام عن دور حسني الزعيم في المؤامرة كضليع متلبّس مخطط منفذ. أخافهم سعاده لذلك قرّروا ان لا يتركوه وحركوا أدواتهم في لبنان لتكون الشرارة التي توّلد النار. ردّ الحزب حدّد سلوكه وأسلوبه «نحن لا نعتدي على أحد ولكننا لسنا نعاجاً إذا هوجمنا بل اسود…» يعرفون انّ الحزب لن يستسلم أو يستكين فبعد إشعال نار المؤامرة في لبنان تحرّكت أدواتهم في الشام وحبكت الخطة والأحرار الأشراف دائماً ضحايا صدق إيمانهم ونقاء سيرتهم، لذلك يقعون لأنهم نبلاء لا أغبياء.

وإذا عدنا بعد كلّ هذا إلى ما كتبه سامي جمعه رجل المخابرات والمباحث المعروف في سورية ذلك الحين في كتابه «أوراق من دفتر الوطن» من 1961 صفحة 66 و67: ظهر لنا الدور الاسرائيلي الفاضح الواضح 1946 والعمالة العربية في خدمته.

كتب يقول: «في بدايات شهر حزيران الذي لا يمكن أن أنساه ما حييت، وصل حسني الزعيم كعادته حوالي العاشرة صباحاً إلى الفندق وبصحبته النقيب رياض كيلاني، وبعد برهة وصل الأمير عادل أرسلان وصلاح الطرزي ثم تبعهم كلّ من الجنرال التركي فؤاد أورباي والميجر ميد، غادر الأخيران قبيل فترة الظهيرة، وعندما انتصف النهار اتصل العنصر المكلف بمراقبة المدخل الخارجي للفندق معلناً وصول المقدّم إبراهيم الحسيني، فخرجت إلى باب الفندق وشاهدت سيارة الفورد بوكس التي كانت تقلّ الحسيني وبجواره على المقعد الخلفي ضابط يرتدي زيّ ضباط الجيش السوري لم أستطع التعرّف عليه، لاحظت أنّ الحسيني يتعامل مع ذلك الضابط الذي يحمل رتبة مقدّم باحترام شديد حيث كان يتأخر عنه الحسيني احتراماً بأكثر من خطوة وهذا الشيء لم يكن معروفاً عنه، فلم يكن الحسيني يهاب أحداً في الجيش السوري مهما علت رتبته وذلك بسبب قربه الشديد من حسني الزعيم.

كان عدد الضباط في الجيش السوري آنذاك لا يتجاوز العشرين مقدماً وأربعة أو خمسة عقداء وثلاثة من العمداء بمن فيهم رئيس الاركان الذي رفّعت رتبته بعد الانقلاب ليكون أول من حمل رتبة لواء في الجيش السوري. كنت أعرف كل ضباط الجيش بالاسم والصورة ولم يكن ذلك المقدّم المجهول الذي يرافقه الحسيني ممن أعرفهم، إضافة إلى أنّ البزة العسكرية التي كان يرتديها تبدو مترهّلة عليه، كما أنّ خطواته لم تكن تمتّ للخطوة العسكرية بصلة، ومما زاد في حيرتي أنّ الحسيني أدخله مباشرة إلى الصالون الذي يجلس فيه حسني الزعيم مع أرسلان والطرزي وخرج فوراً ليجلس مع صهره السيد توفيق الحبوباتي مستثمر الفندق ، وامتدّت الفترة التي بقي فيها المقدم المجهول مجتمعاً إلى حسني الزعيم وأرسلان والطرزي حتى الثالثة بعد الظهر، وقد تناولوا خلالها طعام الغداء سوية دون أن ينضمّ إليهم الحسيني الذي تناول غداءه مع الرئيس رياض كيلاني. كنت أحاول طيلة تلك الفترة أن أقدح زناد ذاكرتي لعلّني أتذكّر ذلك المقدم الذي كنت متأكداً بأني أعرف وجهه وأنه ليس عسكرياً، ثم بدأت تتراقص في مخيلتي صورة موشي شرتوك وزير الخارجية الإسرائيلي في حينها أصبحت كنيته في ما بعد شاريت .

هذه قصة رواها رجل أمن تابع للسلطة القائمة.. وهي واحدة من القصص الكثيرة التي تكشف عمالة بعض القادة للعدو الاسرائيلي…

ما أشبه اليوم بالأمس

اما الأمين الياس جرجي قنيزح فسجل اللحظات الأخيرة قبل تنفيذ الخيانة وتسليم الزعيم حيث قال: كنت ممّن استبد بهم القلق وكبر في تصوّراتهم الشك إلى حدّ دفعني إلى القيام بما ظننته لأول وهلة صالحاً لإنقاذ الوضع المشوب بالشكوك والهواجس إلى جانب انطلاق القوميين الاجتماعيين في ممارسة أروع الواجبات وأشدّها صعوبة وخطورة. فأقدمت على تجاوز صلاحياتي كمدير لمكتب الزعيم وناموسه الأول وأرسلت إلى الامينة الأولى التي كانت قد غادرت بيروت إلى اللاذقية اطلب منها موافاتي سريعاً بأوراق الزعيم الخاصة مثل جواز السفر وما يتبعه من المعاملات الضرورية في حال السفر وقد وصلتني جميعها خلال أربع وعشرين ساعة إلى دمشق حيث كان الزعيم ومركز الحزب ابان الفترة الأولى من بدء الثورة اتخذت هذا التدبير دون علم الزعيم أو إطلاع أيّ أحد حتى أصبحت جميع الأوراق بحوزتي. ما ان تسلمت الأوراق المتعلقة بالسفر إذا رغب الزعيم بذلك، حتى سارعت وطلبت خلوة مع الزعيم لمشاورته بأمر هامّ، ولما انفردت به في غرفة مكتبه وكنت شديد الارتباك والقلق فبادرته بقولي انني يا حضرة الزعيم أشكّ بحسن نوايا حسني الزعيم ويتزايد الشك في نفسي. حتى إني أرى، يا حضرة الزعيم، أنّ الشك بحسن نوايا حسني الزعيم يتزايد في نفسي حتى غدوت أخشى أوخم العواقب من جراء بعض المؤشرات المريعة التي تبدر من قبل حسني الزعيم، وها أني وقد رفعت الأوراق بيدي أمام الزعيم قد أحضرت جميع الأوراق التي تسهّل لكم مغادرة البلاد قبل أن تفاجئنا الأحداث بمكروه. وأرجو من حضرة الزعيم قبول اقتراحي بضرورة اتخاذ التدابير لمغادرة الشام قبل فوات الأوان. لأني أعتقد أنّ حياة الزعيم وسلامته هما الضمان لحياة النهضة وسلامتها واستمرارها. ما كدت أصل بحديثي إلى هذا الحدّ حتى لاحظت في وجه الزعيم ما أوقفني عن متابعي الكلام. راح الزعيم يحدجني بنظرات حادة تعبّر عن عميق ما كان يعانيه من ألم ومرارة وقد بدت على ملامحه علامات التجهّم والتأثر المنفعل كان يصعب النظر إليها، كما يتعذّر علي انتزاعها من مخيّلتي وقد مرّ عليها ما يقارب الثلاثين سنة، كأنّ هذا المشهد لم يمض عليه سوى لحظات قصيرة. ثم أخذ الزعيم يتكلم بتأنّ ظاهر وتمهّل واضح كمن يملي على الحضور كلمات مأثورة أو عظة نادرة البلاغة يودّ من السامعين حفظها واستيعاب جميع دقائقها لتغرس في أعماق الفكر والنفس.

المسألة يا حضرة الأمين، ليست مسألة شك أو توقعات لأسوأ الاحتمالات تأتينا ممن يؤدون صداقتهم للنهضة ويعدون للوقوف إلى جانبها ومؤازرتها في كلّ شأن: إنما المسألة الحقيقية هي أعمق بعداً في وجودنا مما خطر لك فقد فاجأني تكفيرك المستغرب بقولك إنّ حياة الزعيم ضمان لحياة النهضة واستمرارها، بينما الحقيقة هي أنّ النهضة وحدها الضمانة لحياة الزعيم وحياة الأمة وكرامتها. هل بلغك مرة أنّ قائداً وهو في قيادة قواته إلى ميادين القتال وساحات الدم يجعل همّه الأول المحافظة على سلامته واتخاذ الحيطة لتأمين هربه من المعركة ومن تحمّله لمسؤولياته؟ هل يصحّ أن يكون هاجس الزعيم التخلي عن أقدس واجباته من أجل سلامته الشخصية كأنها هي المطلب الأخير فوق كرامة الأمة وكيان النهضة في حين يضرب القوميون المناضلون أمام العالم والتاريخ الرقم القياسي بالصمود والبطولة. فمنذ ساعات سقط الصدر عساف كرم شهيد الحرية والواجب في موقف جبار متحدياً قوى الجيش اللبناني التي تآلبت عليه وأحكمت من حوله الطوق فلم يستسلم ولم يتراجع مغلوباً على أمره وهو مصمّم على خوض المعركة حتى النهاية المشرّفة.

وأني مع تفهّمي للدوافع العاطفية التي حدت بك إلى مثل هذا التفكير الانفعالي وحملتك إلى سلوك هذا النمط من التصرف فإني أرفض اقتراحاً بإعداد العدة للهزيمة وأحسبه موقفاً خلواً من متانة الرؤية إلى الحقيقة ومن بعد النظر وعمق التوازن بين معطيات العقل وجموح العاطفة وجنوحها أيضاً التي من

شأنها أن تحدّد أفق التفكير للإنسان وتثبط عزيمته أمام الملمات».

ولم يشأ الزعيم أن يتناول مجموعة ما كنت قد أعددته له من أوراق خاصة تمكنه من محاولة السفر والابتعاد عن قلب المعركة الناشبة. فألقيتها على طاولة أمام الزعيم، وأنا شديد الارتباك عميق الشعور بخيبة الفشل غير المتوقعة. وكم كنت أعلل النفس بإمكان إقناع الزعيم بوجهة نظري تحقيقاً لسلامته الثمينة الغالية. هكذا بين مرارة ما أصابنا به من جسيم الخسارة وعظيم النكبة بفقدان الزعيم على يد الغدر والخيانة وبين الاعتزاز بقدوة الزعيم أمام الموت في سبيل ما أوقف نفسه له، بين المرارة والاعتزاز نقف في الثامن من تموز لدى ذكرى الشهادة مجدّدين العهد لتصبح النهضة بالفعل أمل الأمة الوحيد وضمانة لحق سورية وخيرها وازدهارها.

ونحقق النصر الذي وعدنا به سعاده.

غداً: لحظة قدّم سعاده دماءه لأمته وكتب الحياة والخلود لعقديته وحزبه

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى