لا يُفرَج عن العسكريين بقطع الطرق ولا بالمواقف الرمادية والمفاوضات الملغومة
علي بدر الدين
لبنان في قلب النيران. والحرائق حوله تزداد اشتعالاً وتكاد أن تأكل الأخضر واليابس، وتضع هذا البلد المعاند في فوهة بركان قد ينفجر في لحظة خطر أو تأزم إضافي، وتتشظى منه الشرائح والفئات والتلاوين اللبنانية كافة على تنوعها وخصوصية مشاريعها المتعددة الأهداف والمشارب والتوجهات.
هذا الخطر المقيم والداهم ليس ترفاً سياسياً، أو دلعاً طائفياً أو عناداً مذهبياً، إنه حقيقة وفعل ودم وخطف وقطع للطرقات وتطقيع عشوائي لأوصال الوطن وقد يكون عن حسن نية، ومقصده خيراً، وليس تنفيذاً «لأجندات» سياسية محلية أو خارجية، لأن الجرح لا يؤلم سوى صاحبه الذي يكابد ويصبر ويعيش على الأمل مهما كان وضيعاً ومتواضعاً ولو بنسبة الخمسة في المئة التي أعلن عنها والد أحد العسكريين المخطوفين.
غير أن المخيف رغم وجوده الدائم والمغطّى بمواقف النفاق والالتباس والمساومة، فإنّ المستجدّ فيه هو أكثر خوفاً وقلقاً على الحاضر والمصير. وعلى لبنان وشعبه ومؤسسته العسكرية يتمثل بخروج الداعشيين الإرهابيين من دائرة العتمة المصطنعة إلى الضوء والوضوح ورفع الصوت والرايات السود وأعلام تنظيمات إرهابية «داعش والنصرة» والتظاهر في العلن بوجوه كالحة ومكشوفة وقبضات مسمومة وعقول متخلفة ومتحجرة، هدفها توجيه رسائل ملغومة ودموية إلى الجيش اللبناني، الذي يحقق نجاحات عسكرية وأمنية، ويئد الإرهاب والفتنة بإجراءاته الميدانية التي يعتمدها في مختلف المناطق اللبنانية. وهذا لا يعني أن التنظيمات الإرهابية انكفأت أو عادت إلى أوكارها وجحورها، بل هي أرادت من رسائلها عبر تظاهرتي عرسال والتبانة وبياني «جبهة النصرة» و«هيئة العلماء المسلمين» أن توحي بأنها قادرة على إيقاظ خلاياها النائمة وعلى تجييش أنصارها وتحريكهم تحت شعارات مذهبية تحريضية في كل زمان ومكان علّها بتلك الرسائل تنجح في إرباك الجيش والتخفيف من إجراءاته الأمنية الميدانية، وبالتالي إرباك السلطة السياسية المنهكة والمربكة أساساً لعدم قدرتها على اتخاذ القرار السياسي المطلوب في هذه المرحلة لمواجهة الخطر الإرهابي ولجم تداعياته.
ومؤسف أمام أخطار كثيرة واقعة وداهمة أن تقف الدولة بحكومتها ومسؤوليها وقياداتها وقواها السياسية مكتوفة الأيدي عاجزة عن الاتفاق على آلية وطنية سليمة لمواجهة الإرهاب وشل قدرات التنظيمات الإرهابية في مرحلة لم يعد فيها مكان للرمادية في التعاطي مع ملفات داخلية معقدة، لأن الظروف تقتضي لوناً واحداً وتوجهاً واحداً «يا أبيض يا أسود»، واعتماد أحدهما بات خياراً لا بد منه إزاء الضغوط التي يتعرض لها لبنان وشعبه وجيشه. كما أن الانكشاف والتردد و«قلة الحيلة» لم تعد جميعها مطلوبة أمام تنظيمات إرهابية لا تفهم سوى لغة القتل والخطف والذبح والتعامل معها باللغة السياسية والتفاوضية لم يعد يجدي ولا دور لها ولا فائدة. والتجارب عديدة في هذا المجال. كما أنه لا فائدة متوخاة من الاستعانة بدول صديقة أو شقيقة في شأن قضية العسكريين المخطوفين لأنها متورطة بطريقة ما في تعقيد ملف الخطف من خلال تبنيها ودعمها التنظيمات الإرهابية المختطفة.
الحل الأكثر واقعية لمقاربة أزمة العسكريين المخطوفين يكمن في وقف التفاوض من أي جهة كانت مع الإرهابيين، ورفض المقايضة وعدم الخضوع للإرهاب والابتزاز ورسائل التحريض السياسية في عرسال والتبانة وتأمين الحد الأدنى من الاتفاق بين الدول والقوى السياسية الفاعلة على الأقل في ملف المخطوفين العسكريين، والإصرار على الإفراج عنهم بمنأى عن أية شروط. والأهم من ذلك الوقوف مع الجيش في حربه على الإرهاب ودعمه في السياسة والعدد والعتاد، وتفويضه اتخاذ القرار المناسب الأمني والعسكري لإنقاذ عسكرييه من براثن الإرهابيين.
ولا بد إزاء ذلك من تشديد الحصار العسكري والأمني والغذائي والمائي على الإرهابيين المختبئين والمتمترسين في جرود عرسال.
وعلى الحكومة التي تطلق بين الحين والآخر مواقف التفاؤل والإيحاء بأن معاناة العسكريين المخطوفين باتت على خط النهاية أن تعمل بصمت وفق مقتضيات المصلحة الوطنية. وبعيداً من الإثارة والضجيج الإعلامي الفارغ الذي يضر ويسيء أكثر مما ينفع، ومن واجبها ومسؤوليتها احتضان أهالي العسكريين والوقوف على خاطرهم لأن من يده في النار ليس كمن يده في الماء. ولا بد من إيجاد بدائل ووسائل ضغط لدى الأهالي غير قطع الطرقات وتضييق الخناق على المواطنين والإضرار بمصالحهم، لأنه يكفيهم ما هم فيه من معاناة ومن تخلي الدولة عنهم، وقطع التواصل بين المناطق والمدن والبلدات لن يزعج الأفرقاء السياسيين أو يعطّل مصالحهم، لأنهم متمترسون في أبراجهم يتطلعون من فوق على ما يحدث تحتهم من دون أن ترتجف فرائصهم أو تصفرّ وجوههم لشعورهم بأنهم بأمان واطمئنان.