الباحث الموسيقيّ وضاح رجب باشا: صباح فخري قطب من أقطاب الغناء العربيّ
كتبت شذى حمود من دمشق سانا : فرادة المطرب الكبير صباح فخري، والإمكانات الصوتية والموسيقية التي يملكها، أبرز ما تناوله الباحث الموسيقي وضاح رجب باشا في محاضرته التي ألقاها تحت عنوان «الإمكانيات في صوت صباح فخري» في ثقافي الميدان في دمشق، لافتاً إلى أنّ فن صباح فخري تميز بمتانة التكوين الموسيقي والتشبع بأصول الطرب القديم، مع قدرة فائقة على الإبداع والتجديد تخوّله التصرف في التراث الغنائي العربي وإثرائه بأسلوب خاص، من دون تجريده من روحه الأصلية.
استعرض رجب باشا مسيرة هذا الفنان الذي نشأ في بيئة دينية بحفظ القرآن الكريم، ما ساعده في إتقان تبليغ المعنى بالحرف والكلمة واللحن والإيقاع معاً، وأصول البيان وضبط قواعد اللفظ وتقنيات التنفس، ما كوّن لديه ذاكرة قوية، مشيراً إلى أنه دعم دراسته النظرية في المعهد الموسيقي الشرقي في دمشق بالعمل الميداني في الإذاعة السورية وبدأ يشتهر تدريجيا بصوته الرخم وبإجادته أصول الغناء التقليدي المضبوط. وأشار الباحث أن صباح فخري عرف بهذه التسمية منذ التقائه الأديب والمناضل فخري البارودي سنة 1947 وتشجيع هذا الأخير له على الاحتراف الفني، فلبّى دعوات الإذاعة السورية لتسجيل أغان تراثية وأخرى مجدّدة تلحيناً على أيدي الأساتذة الذين علّموه، مثل بكري الكردي ونديم الدرويش ومجدي العقيلي وعزيز غنام، فضلاً عن بعض الملحّنين السوريين الكبار مثل عدنان أبو الشامات وإبراهيم جودت وآخرين. وأوضح أنه تقديراً لمساهمات صناجة العرب الفنية وعطائه الغزير الذي أثرى به مكتبة الغناء العربي الأصيل، نال العديد من الجوائز وشهادات التقدير، فهو يحمل لواء إحياء التراث الغنائي العربي الأصيل ويعتبر صاحب مدرسة عربية في الغناء وأشرطته وسائل إيضاح يطلع عليها دارسو الموسيقى والفن العربيين عامة.
كما حقّق فخري أكبر رقم قياسي في الغناء المتواصل في العالم بغنائه مدة عشر ساعات متواصلة على المسرح أمام الجمهور، من دون استراحة، وحدث ذلك في كاراكاس، عاصمة «فنزويلا»، عام 1968، بحسب موسوعة «مايكروسوفت انكارتا»، لافتاً إلى أن السر المبدع في هذه الرقم لا يكمن في الوقوف والغناء مدة عشر ساعات متواصلة، بل في تواصل الجمهور معه خلال هذه الساعات من غير ملل.
أطلقت على الفنان صباح فخري ألقاب كثيرة خلال مسيرته الفنية الرائدة مثل «أبو كلثوم» عام 1948 حين شارك مع المطربة نجاة الصغيرة في حفل بمدينة دمشقي، و«أمير الطرب» و«العندليب» و«الكروان» و«ملك الغناء» و«ملك الطرب والفن الأصيل» و«صناجة الغناء العربي» و«الحارس الأمين للطرب العربي» و«بلبل الشرق»، إلخ.
أما رصيده الغنائي، بحسب الباحث رجب باشا، فهو زاخر ومتنوع إذ غنى فخري خلال مسيرته الفنية الطويلة نحو ثلاثمئة وستة وسبعين لحناً توزعت على أهم القوالب الغنائية التقليدية التراثية المتمثلة في الموشحات والقصائد والأغاني الشعبية الفولكلورية والقدود الحلبية والمواويل والابتهالات الدينية والأدوار والأناشيد، وتوزّعت ألحانه في جميع أعماله على ثمانية عشر مقاماً موسيقياً شرقياً، ضمنها ثلاثة مقامات تسيطر على القوالب الثلاثة الأكثر أداء لدى صباح فخري وهي مقامات الحجاز والبياتي والراست. أما بالنسبة إلى الموشحات فكانت النسبة الكبرى منها لعائلة مقام الهزام أو السيكاه أو راحة الأرواح.
أضاف الباحث أن القدرة الفائقة التي يملكها صباح فخري على التنقل اللحني المباشر بين المقامات الموسيقية العربية، فضلاً عن الطاقة الصوتية النادرة التي يتمتع بها، جعلت منه مطرباً قادراً على أداء القوالب الغنائية التراثية العربية كافة، من موشحات وأدوار ومواويل وقصائد وأناشيد ومدائح دينية وأغاني الفلكلور الشعبي. مع التأكيد على ميل فخري منذ بدايته الفنية إلى الأغنية الكلاسيكية ذات الطابع الطربي والتي تشترط حسن الأداء والتشبع بالمقامات والإيقاعات، وما أهّله لأن يكون من المطربين الذين غنّوا الموشحات والأدوار القديمة الأصيلة وحافظوا عليها.
فضلاً عن تجربة المطرب الكبير مع عيون الشعر العربي فإنه غنى لشعراء معاصرين سوريين ومصريين وفلسطينيين ولبنانيين وتونسيين وسعوديين، بينهم بدر الدين حامد والدكتور جلال الدهان وجلال الدين مجدمي وحامد حسن معروف وحسام الدين الخطيب وحسيب الكيالي ومصطفى عكرمة ومصطفى حسين البدوي وأحمد رامي وأحمد عاشور سليمان والشيخ محمد الدرويش وابراهيم طوقان ورامي اليوسف وإيليا أبو ماضي وأحمد الغربي وعبد العزيز بن محي الدين خوجة وغيرهم الكثير.
اختتم الباحث محاضرته بالقول إن المطرب صباح فخري ساهم فعلياً في مسيرة الحركة الفنية في العالم العربي، وفي إنماء ذوق فني رفيع المستوى لدى المستمع العربي، من المحيط إلى الخليج، من خلال ما قدمه في قوالب غنائية تراثية حرص على حفظها وتوثيقها للأجيال المقبلة كي تبقى صورة لعصر ونموذجاً يساعد الدارس في تقويم إنتاجات هذا الزمن.