«عزازيل»… صيد في الماء العكر… والسقوط في مهبّ الضوء!
محمد رستم
يعنون الروائي يوسف زيدان مرويته بـ«عزازيل»، هذا الدالّ المؤثّر بزخمه اللغوي والإيحائي. وبهذه المعنون ولج الكاتب ذائقتنا القرائية من خاصرتها الرخوة، عبر «البعبع» القابع في أعماقنا، ذاك الذي غرسته التعاليم الدينية في عالمنا النفسي منذ الصغر، فبات جزءاً من كينونتنا «الشيطان، إبليس، عزازيل»، متّخذاً ـ أي الكاتب ـ منه جزرة الغواية في استسلامنا لسرديتة تلك.
على مشنقة الرهبنة عالية القيم، وداخل سجنها، علّق «هيبا» غرائزه الدنيوية بإحكام لعله هكذا اعتقد إلّا أنّ شواظ تاء التأنيث أتت وبسرعة على كل ما لديه، فحطّمت حواجزه وحصونه وبات يتخبّط في عنكبوت الغريزة الجنسية، التي بدت لديه شمساً متمادية البهاء لا يحجبها غربال سمل بعد أن اعتقد أنّه وضع بين قوسين من أقواس الحياة كل رغباته الجسدية. لكنّ صهيل الشبق في أعماق جسده أحاله خالي الوفاض، مما يسمى «إرادة»، فارتكب معصية الانفلات من أسوار الرهبنة والقيود الروحانية وتعاليم يسوع.
المرويّة تحكي تجرّع مرارة الإحساس بالهزيمة أمام انتصار غريزة الصلصال على التألق الروحاني في رحاب ملكوت الخالق.
في حرب بين طرفَي التكوين في كينونة الإنسان، الغريزة البشرية مجسّدة بغريزة البقاء النوعي الجنس حيث يشار إلى محرّكها خارج إطار الشرعية بـ«الشيطان»، والقيم الروحانية متمثّلة بالسموّ فوق هذه الرغبات، وكبح جماحها، وذلك من خلال دخول عالم الكهنوت والوصول إلى مرتبة راهب. على شاطئ الاسكندرية، بين عالم التراب والبحر حيث يتشكّل الصلصال، التقى الخصمان للمرّة الأولى، «هيبا» المحصّن بدرع راهب والمذخّر جعبته بكلّ أنواع النواهي والمتعمّق بفكر اللاهوت المسيحي، والمتقن اللغات السريانية واليونانية والقبطية والعبرية، ما يمنحه شراعاً يرتحل به إلى أعمق أعماق الفكر الديني. لكن ثمة تهرؤات في خطوطه الدفاعية. فهو يشكّ بعمادته، كما أنّه شاعر مرهف الإحساس ويأسره الجمال. ولعل التهدم الأكبر في قلعته النفسية حبائل عقدة سبّبتها أمه عندما تزوّجت من قاتل أبيه، أبيه الذي قتله المسيحيون لأنّه يعطي بعض صيده من السمك لرجال دين وثنيين. لكن ماذا عن الآخر «عزازيل، غرائزنا»، هو مدجّج بالسلاح الأمضى الأنوثة بكل بهائها وسطوة سحرها من جهة وشبق الغريزة المتغلغلة في خلايا جسدنا، وهو كما أسلفنا جزرة الغواية حيث يفلح الكاتب في ليّ أماني ورغبات المتلقي صوبها فيتمنى أن ينتصر «عزازيل» على طهارة الراهب «هيبا»، بعد أن يكون الراوي قد نقلنا نحن المتابعين والراهب «هيبا» إلى حالة من الانبهار والإثارة بالجمال الأنثوي، وبحركات الإغواء الجنسي لـ«أوكتافيا». فبات اكتمال نشوتنا برؤية الراهب «هيبا»، يخلع عنه ثوب الرهبنة ويقع صريعاً أمام وابل الرشقات من الجمال الأخّاذ وحركات الإغواء الأنثوية التي ينهال بها «عزازيل» على خصمه المستسلم بعمق للذّة الجنسية. وكم كنّا سنصاب بخيبة أمل لو أنّ «هيبا» ارتفعت حرارة إيمانه تحت تأثير الرهبنة ولم يلبّ رغبة «أوكتافيا».
وإذا ما تعمّقنا في العالم النفسي لهيبا لوجدنا أنّه ليس ذاك الراهب الذي أدار ظهره لملذّات الحياة ليكتفي بملذّات الزهد. بل هو متردّد بين بين مع أنّه أمضى عمره بين جدران الكنيسة يفصح عن تردّده فيقول حين طردته «أوكتافيا»: «… سأتعلّل لها بأنّي خشيت أن أفقدها ولسوف تسامحني وتقبّلني ثانية فأعيش معها وأنسى الأوهام التي تملؤني وتسيّر خطاي إلى حيث لا أعلم».
إن حروفه هذه تؤكد أنّه بعيد عن عالم الرهبنة كما أنّ استسلامه المباشر لإغراء «أوكتافيا» وعدم وقوعه في صراع نفسي بين إقدام وإحجام يؤكد بعده عن روح الرهبنة، يقول: «لم أشعر قربها بخطر الخطيئة وإنما شعرت بأنني أغوص فيها وأنسى ما عداها». وعينه المغرمة بالأنوثة تغسله من طهارة الكهنوت يقول عن «هيباتيا»: «وكان أنفها جميلاً جدّاً، وفمها وصوتها وشعرها وكلّ ما فيها كان أبهى من كلّ ما فيها». وبين شوطَي الرواية «أوكتافيا» و«مارتا»، راح كل من المتحاربين يهيّئ نفسه من حيث يدري أو لا يدري لمعركة قادمة في فترة هدنه غير معلنة. حرص «هيبا» على تحصين مواقع القوة لديه من خلال البحث الدائب عن جوهر الحقيقة الدينية والتساؤل الملحّ عمّا يقلق روحه من جوانب غير واضحة لديه في جوهر الاعتقاد المسيحي، والذي أثار صراعاً عنيفاً داخل الكنيسة حول «طبيعة السيد المسيح»، بينما ذهب «عزازيل» الحامل الأساس للرواية والقابع وراء أحداثها حاضراً كان أم غائباً، إلى إقناع «هيبا» بأنه ليس منفصلاً عنه بل هو منه وفيه.
وتبدو شخصية «هيبا» مأزومة في حالة قلق دائم تعيش في الماضي ذكريات مقتل والده وزواج أمه من قاتل أبيه ولعلّ اندفاعه نحو المرأة يخفي في أعماقه دافعاً كما يرى فرويد هو الرغبة في الانتقام من المرأة بشكل عام وذلك بالاحتواء الجنسي وبالتالي الانتقام لأبيه المظلوم. ولعلّ «هيبا» وفي محاولة للتكفير عن موبقاته وكي يعود بأضعف الخسران، كتب هذه الرقوق ليعترف بكل شيء تحت قوس محكمة الحياة كما الاعتراف أمام الكاهن بالخطايا بعد أن تأكد أنّ روحه قد تسربلت بوابل الدنس تحت تأثير تاء التأنيث التي توقظ تائه الغرائز من ثنايا الطهارة والحشمة، فيغدو رسول الفضيلة مهزوماً.
مهزوم، و«مارتا» هي صفحته الأخيرة التي كشفت أوراقه فتبيّن أنه ليس راهباً، بل هو مجرّة من الخطايا وباتت كلّ فصوله عارية، وغدا إنساناً منتهي الصلاحية، مع أنه اختار المساحة النظيفة الكنيسة مسرحاً لحياته، لكنه لم يستطع أن يرقى إلى قداسة المكان.
ولم يتعمّق الكاتب في العالم النفسي لـ«هيبا» والصراع الذي يفترض أن يشتعل داخله، لأن المروية ليست من الروايات النفسية، بل هي ترواح بين السيرة الذاتية والرواية التاريخية، وقد ركّز الكاتب على الرقوق التي دوّن «هيبا» عليها سيرته الذاتية. كما ذكر عدداً من الأحداث التاريخية ليمنح مرويته صفة الصدقية المتّكئة على الرقم والآثار. وتعتمد الرواية على تقنية الخطف خلفاً، كما يقطع سيل السرد حوار مع «عزازيل» أحياناً. وما يميّز لغة الوصف للراوي التدقيق في وصف جزئيات الأشياء بلغة رشيقة.
وثمة تساؤل نهمس به للكاتب: لِم هذا التغييب للغة العربية في تلك الفترة؟ ولماذا تؤكد الرواية على أن العنصر العربيّ غريب عن جغرافية المكان؟ بل ويبدو كطفح جلدي. العنصر العربي غريب ومخيف. وهناك احتقار متعمّد له يقول: «أغلب تجّار القافلة كانوا من هؤلاء العرب الذين لا معرفة لديهم بدقائق لغتهم». وكأن الوجود اليهودي في المنطقة هو الأساس والرواية تضعك في جوّ أن فلسطين يهودية ولا وجود للعنصر العربي فيها، فسمّاها الراوي قرى اليهودية يقول: «بعد سياحات طويلة في قرى اليهودية فلسطين والسامرة». ما هكذا تورد الإبل أيها الأديب الكبير يوسف زيدان.
كاتب سوريّ