«ذاكرة الأرواح»… تستظلّ بالحبّ في غياب الوطن!
وليدة عنتابي
مجموعة شعرية حداثية للشاعرة الدكتورة أسمهمان الحلواني، في مئة صفحة صادرة عن «دار كيوان للطباعة والنشر»، طبعة أولى عام 2017. وتنضوي نصوص المجموعة بين جنحَي غلاف تنبسط عليه لوحة تمثل وجهاً جانبياً لامرأة شبه مغمضة العينين، يوحي أكثر مما يبوح. مرسوم بريشة تلبستها نشوة الغموض واستعصاء السّر في السريرة، وكأنّها تستعيض عن البصر بالبصيرة وعن الابتسام بالتحام الشفتين في اعتزام بوح داخلي يُبثّ من أعماق الذات من دون أن ينبس بحرف.
وما إن نجتاز بوابة الغلاف في دلالته الواعدة بما وراء الظاهر، حتى تجتذبنا تلك الروح الأنثوية المستترة وراء عنوان المجموعة في ذاكرة الأرواح، وكأن للأرواح ذاكرة مشتركة، آلت الشاعرة أن تتوزّعها تلك الأرواح في ما بينها.
وهي على الوجه الآخر للغلاف تتمرأى ببصمة روحها الخارجة عن الفناء، منجزة خلودها الخاص عبر إفلاتها من نواميس المعابد الموغلة في العمق، رافضة أن تكون مجرد ترددات تتصادى في طريقها إلى التلاشي في بهو الوجود. بل تؤكّد سموّها فوق الأشياء في هزّة غجرية تكتفي بها من دون أيّ تأويلات أخرى لحلّ لغزها.
وما هو لغزها هذا؟
هلمّوا معاً ندلف إلى عوالمها الجوانية نستجلي خفاياها وخباياها، لتطالعنا صوَرها عارمة التدفّق، وعباراتها بصراحتها الصادمة، بكل ما فيها من عفوية وجرأة وصدق، على أن تكون هي وليست نسخة عن أخرى، ترسمها رغبتها اللاواعية في أن تكون ولا تكون.
تتزين مجموعتها الأنيقة بلوحاتها اللافتة التي وشّتها أناملها بأزهار بوحها وقد أراقت على شرفاتها أشعّة حالمة من شفيف أحاسيسها ورهيف مشاعرها.
تستهل شاعرتنا مجموعتها بنّص نثريّ يعلو بأجنحة الشعر، لتعلن عن ماهيتها كموجود إنساني في لعبة التناقضات، مؤكّدة مثنوية الكائن البشريّ من خلال مثنوية الكون، لتنتهي إلى بحثها عن ذاتها علّها تجدها في نهاية المطاف.
وها هي تتمظهر عروس مولد حمراء تحج معه إلى جوهر الوجود حيث يبتلعها الدوار في حمّى الطواف، في خشيتها من الضياع ورجائها بتمسّك أشدّ لئلا يفلت منها زمام جوهرها المكنون.
في حلوى سكّرها المحروق تتبدّى سوريالية حلمها الرازح تحت وطأة ألم شائك، يحيله حلاوة تسيل على صفحة خدّه ذاك الذي ينوء بعبء صبّاره العنيد.
وهي في نرجسها المتجسّد بين توحّدها وانشقاقها، ليلها ونهارها، مدّها وانحسارها، تتحمّل وجع الصعود والنزول، لكنّها تحلّق متهجّية أبجدية الفصول.
في نصّ الشجرة تتقمّص شكل الشجرة بينما تنبثق ذاتها من خلال شعورها بجدواها لتبحث عنه وتدعوه إلى الصعود والتماهي فيها، ليصبحا معاً شجرة واحدة وهي في نصّها إبهام تجتلي بكلماتها التي تخفّف من أرديتها لتصبح على سطح ذاتها ناضجة الأنوثة فينعقد الحوار الذي بينها وبين الحبيب ويغوص المعنى في الإبهام مرتجلاً ملحمة الولوج مفخّخاً بالصمت.
في ومضاتها اللافتة صور مجنحة وتلميحات مواربة، تزجّنا عبر دهاليز مخاتلة مربكة… غير أنها شديدة الجذب، ترغمنا على متابعتها والجري في أزقّتها ومنعطفاتها، لنخرج من وشاية حارقة إلى رجوع، بالقرب منه، في نظرة تنقضي ولا تنقضي، لجسد وروح اكتفى كل منهما بذاته.
في زحام الطريق للقاء أشرقت فيه شمس الاحتراق وقد تركت مدائن روحها على باب غرفته، زهرة صغيرة في انزواء الحديقة، تؤول للذبول، حين يكون هذيانه المحموم محض أحلام.
تتمظهر ذات الشاعرة في طهرها المتوخّى رافضة كل صيغ الجموع، لتتجلّى في وحدانيتها متماهية مع جوهرها الخالص، ذلك الجوهر الذي يلتقي به شوق لا يكتمل ومرام لا يعرف التمام.
إنها في عشقها للرسم لم تكن تعلم أن عليها أن ترتق تمزّق الحياة في عبثية تناقضاتها ونقصها وتشوهها، محاولة إنقاذها من مهازلها من دون جدوى.
أجل إنّها لحظة لا تحتمل، تلك التي تستيقظ في منتصف الحلم لتغدو في منتصف الصحو، من دون أن تغفر له ذلك، الذي يشيح يوجهه عن الحب.
وماذا لو كان الجرح غير مرئي وكان اللقاء ظلاً متموّجاً في الشمس،
وكان الاستشهاد على نصل البوح يعادل سقوطاً حرّاً في مطلقٍ سيّد ؟
سؤال يفصح عن خلو المكان رغم تواجده، ما إن يرفض حبّها حتى تكتنفها تناذرات تغريها بطاقة الأمل المفتوحة في فراغ أحداثه وقد أفصحت بقدر ما تستطيع، وتهجته حرفاً حرفاً بقدر ما تشتهي، حتى غاصت في تجاعيد الطين الغارق في بحره الضحل، متسائلة أن يغمرها طوفانه، مستشهدة بصدق وعد نوح.
وهي في تسميتها للصدفة التي تدعوها خاطئة، في الزمان والمكان بـ«القدر». إنما ترحّب متهللة بحبّه المحتوم، لتصل بابه المفتوح بلا حراسة، مسندة رأسها إلى خفق الجدار، في حين أنه لم يدرك حين غادرت أنّ انهيار المدخل سيلي زلزالاً آخر، فقد كان غيابها غير محدد الملامح، إنّها مرئية طوال الوقت في مائه.
فكم وكم تحتاج روح الشاعرة من الصحو وقد طالت إغفاءتها، كي تبدأ معه القصيدة، مرتفعة به إلى سماوات الشعر، حيث شوق الشمس يحرق وحرارة النور تبخّر وبرودة الريح تكثّف، ليتم الهطول حبات ندى على جسد المخمل ويتقطر اللون لحناً على وتر النهار.
وهي في تعريفها الخيال تسكب الواقع فنّاً على ورقة، حيث ترتبك الغيمة بين يديك وقد عبرت سماءك سنونوة عاشقة. ويثمل الحبر كلما ولجته ريشة اشتدّ عودها ويتعمّد بالنور مدركاً ما وراء النشوة:
أبسط راحة كفّك
ها أنذا
هل تشتاقني؟
سؤال برسم الصمت… وقد أورق الحب على جيد قلمه، ذات يوم دخل فيه من بوابته الشاسعة شاعر سقط دمه مختلطاً بعرقه، صامت الترتيل وما زال قبره مزار الرؤى.
تتبارى الأسئلة على كنف القصيد وتربو على متن اندلاعها متوسلة أجوبة مرتجلة:
كيف أكتبك؟
أصفني فيك
كيف أقرأني في سطور ارتباكي
وأنت المتواري
في ملامح عصيّة على التعريف؟
إنها لم تكن مومياء الحكاية بل مليكة حفظت تقاسيمها في أنوثة أعمدة ناعمة، هي الحضارة الدفينة وهو أثريّ الملامح.
حين تراقص وجهها على سديم عتمته كانت تختصر كل حيواتها الماضية، مسندة روحها إلى نخلته السامقة، لتغفو باطمئنان، كلما التقته يألفها الصمت، في صخب النهنهة تتتالى موسيقاها الداخلية، كان العمر نصف يقظة وكان الحب العمر كلّه:
هل أتاك حديث النبض فانتشر اللجين؟
هل أتاك حديث العطر خلف ردهة العتم؟
هل أتاك حديث الوحي المحكم
بالحجارة المشرفة على ماء زلال؟
تتوالى الأسئلة مترعة بأشواق سرية لعوالم غيبية تمكث في ذاكرة الأرواح تلك الذاكرة الهائلة للبشرية حيث تنضج الرغبات اللاواعية في نوسان نارها القدسية… سؤال يتلوه سؤال وتبقى الإجابات معلقة على كاهل سيّدة الأسئلة:
أبعد من كل شيء
أقرب منك إليك!
رغبة جارفة ترفعك إلى السماء
شوق يترجم جحافل أعاصيرك
كيان ينبض بك أنت
أنت لا تعلم إذاً أيّ فراشة أنا
أيّ ليل هو ليلي
وحده الصمت يصرخ بشدّة يعلن الثورة على مقام الفم المتعلّق بالقبلة
على ميقات رحيل ولأنه الحالة الأكثر تعقيدأ في حياتها الضئيلة، كان لابد للشاعرة المرهقة بإرهاصات وجودها من استحضار أبعادها السبعة ومنافذ روحها الأربعة عشر، ليطفو في ماء عينيها معمداً كزهرة لوتس.
ولأنها لا تشبه سواه كان نافذتها المحيطة بجسدها المبذول، تلك هي البتول التي أشقاها ربها.
حضور طاعن في الغياب يعكس النور حين تغيب الشمس على مسقط الروح.. في منتصف اللهفة تتفتح في ذاكرة اللوز، هي الشجرة التي اختصرت في قلب نواة.
هي الوحدة جسد الفراغ في غمرة غيث، ليعود الرمل بقايا ذات تشظت تحت غمرة شمس وباقة غيم ويمخر عباب الوقت والزمن الدفين بأشرعة مبللة وحده يتجرعها كأس هيام ولأن بعض الأجنحة قصيرة الزغب، عصيّة على التحليق، تراءت للشاعرة في مرآة حدسها حقيقة مجردة نصفها سؤال ونصفها جواب لا يقال.
باقة مشاعر أنثوية ملونة بأطياف وعي إنساني استماحت ذاتها بوحاً راقياً يخلو من ذبذبات العقد وجلد الذات، هاهي في تلقائيتها وعفويتها تعبر تماماً عن روح الأنثى الحضرية المنطلقة، تلك التي تساوت وصنوها الرجل في حقها على صعيد إنسانيتها معاشاً وإنجازاً، واقعاً حقيقياً وافتراضياً، معلنة تمردهاعلى الزائف والمخاتل لتنجلي بناصع بياضها على سواد عصور غرقت في دجى اللائق والمقبول.
ممسكة بعصاها الكشافة من منتصفها لئلا تنحدر إلى أحد القطبين وتفقد مصداقيتها.
من خلال لغة سهلة شفافة ومعان عميقة البعد وتخييل اعتمد المجاز المرسل شارة للإدهاش والإمتاع وحيث علاقة الألفاظ فيما بينها والتي تفيض بدلالات تخرج عن مألوفها لترتقي فضاءات أكثر بعداً وأشد إشعاعاً
تسلط نصوص الشاعرة الضوء على أعماقها اللامرئية مفترعة أبعادها مكرّسة مراميها ومقاصدها في خدمة وتزيين ذاتها وتجميلها في وعي قرائها، حتى لتخالها بلقيس زمانها وكليوبترا عصرها، ساحرة واعدة لا تشق لها طاعة ولا يثار فيها غبار، تلك المصقولة اللامعة بمعطيات حضارة فوق مدنية أقرب ما تكون إلى اكتمال النضج تمتطي صهوة الحرف براقاً واعداً بالمزيد من المتعة والجمال، حيث الفن يختتم الجولة الأولى في سلسلة حلقاتها، مبشراً بالمزيد من شمس سمائها ودرر أعماقها.
ما يلفت النظر أن هذه المجموعة مكرّسة لتمجيد الذات وتجنيد الحبيب الذي هو الوجه الآخر لهذه الذات في ملغمة وجودية قابلة للانفجار.
تكاد تخلو المجموعة من حضور الوطن، يحكمها غياب المعاناة الإنسانية في ظل واقع الحرب الذي نقاسيه وكأنما الشاعرة هبطت علينا من كوكب آخر لا يعرف إلا الحبّ والوفرة والجمال وأنعم بالحبّ الذي يستطيع أن أن يكون الخلاص، حين لا خلاص إلا بالحبّ.
كاتبة سورية