ستاتيكو النزاع الخليجي
د. رائد المصري
تبدو واضحة الأسباب التي تقف وراء استهداف الغرب والمستعمرين الجدد لدول المشرق، ومنها الدولة السورية التي يستمرّ فيها النزاع منذ نحو سبع سنوات في عملية استنفاد الأوراق الدموية كلها آخرها في هذا البلد، والتي وصلت اليوم الى نهاياتها الفاشلة، وبعكس ما كان يتوقَّعه أو يعمل عليه المستعمر الغربي و«الإسرائيلي».
فقد أرادوا من ضرب سورية تغيير النظام فيها وإحلال نظام متنازل عن الثوابت الوطنية بوجه الكيان الصهيوني، وخاضع له أكثر من خضوع محمود عباس، ومن دون عودة الجولان المحتل وتحرير الأرض. وأراد المستعمر من خلال ضرب سورية تطويق إيران ومحاصرتها تمهيداً لإسقاط النظام فيها ومنعها من التمدُّد والعبث فيما بعد بمقدراتها وبشعبها، وأرادوا كذلك من تفكيك سورية ضرب المقاومة في لبنان وفلسطين وقطع طرق الإمدادات عليها بغية تصفيتها والانتهاء من حالة القلق التي تشكِّلها لها هذه المقاوماتز ناهيك عن عزل روسيا وتشليحها آخر قاعدة عسكرية وتواجد لها على المتوسط، ليبدأ بعدها تقاسم النفوذ والتحاصص الاقتصادي والاستثمارات النفطية والغازية عبر مدِّ أنابيب الغاز الخليجية والقطرية إلى المتوسط ومن ثم إلى أوروبا.
كلُّ هذه الأهداف التي رسمها المستعمرون الغربيون باءت بالفشل بعد سبع سنوات، تقلَّب خلالها الصراع في سورية وتبدَّل آلاف المرات من دون أن يسفر عن أية نتيجة إيجابية يمكن تحقيقها. فالنظام في سورية لم يسقط والرئيس الأسد باقٍ وبمطلب غربي شديد، طبعاً بعد أن أثْبت أنه رجل المراحل الصعبة ويمكن الرهان عليه، والحلم الصهيوني تبدَّد في تطويع هذا النظام وجرِّه للاستسلام، كذلك وبَدَلاً من أن تُعزل إيران ويتم تطويقها ها هي تتمدَّد ويقوى نفوذها ولها حضورها القوي في العراق وفي سورية، بل أصبحت قواتها متاخمة لحدود فلسطين المحتلة، والمقاومة لم تضعف بعد هذه الحرب ولم تخِفّ قدراتها العسكرية وجهوزيتها، بل باتت أقوى تسليحاً وتطوراً وحضوراً شعبياً مما كانت عليه أو ممَّا أرادها المستعمر عبر شيطنته الدائمة لها، وبدلاً من عزل روسيا وإنهاء وجودها العسكري وقاعدتها في طرطوس، أصبحت بعد هذه الحرب تملك قاعدتين وأكثر على الأرض السورية، بالإضافة الى باعها الطويل في طرح المبادرات السياسية ووقف الحرب ولجان المراقبة لوقف النار ومناطق تخفيف النزاع وغيرها، بما يدل على إطلاق يدها ومشروعها كاملاً في المنطقة، وأخيراً وليس آخراً حركة مرور ومد أنابيب الطاقة القطرية والخليجية الى المتوسط خدمة للغرب ولأهدافه المشبوهة، والتي فشلت جراء استقلالية قطر في هذا المجال وفتح الأسواق والإعلان عن الشراكة القطرية الإيرانية في حقول الغاز المكتشفة حديثاً، وهو ما يدل على تبدُّل واضح في علاقات الإنتاج كطاقة بديلة عن النفط تُصاغ اليوم بعيداً عن تأثيرات الأميركي ومشاريعه، لكون المنتجين الأوائل للطاقة الغازية في العالم هم روسيا وقطر وإيران. وهو ما سرَّع من تفاقم وتطور النزاع في الخليج بين قطر وجيرانها في مجلس التعاون ومعهم مصر.
كلُّ هذه الأهداف التي رسمها المستعمر الغربي لم تتحقق بل تحقَّق عكسها بالتمام. وهو ما خلق تصدُّعات وتفسُّخات في المحور المعادي لسورية ولحلفائها. وهو كذلك ما جعل الأميركي راضخاً ومتجاوباً للحلِّ السياسي في سورية بدأها في منطقة الجنوب عبر وقف إطلاق النار والإشادة به، وحث العمل على تعميم هذه الحالة لضرب الإرهاب بالشراكة وبالتفاهم مع روسيا وحضور قوي للدولة العربية السورية التي أصبحت الضامن الأساسي لهذا التغيير.
نعود لحالة التصدع الخليجي وأزمة قطر التي شكَّلت عنوانها، فالإعلان الرسمي لقطر بأنها أبلغت ألمانيا استعدادها لفتح ملفات استخباراتها كاملة لهم، وهم أي الألمان يعرفون بأنَّها متورطة في تمويل الإرهاب، وكذلك أطراف الأزمة الخليجية الآخرون حيث كان الموقف الألماني لافتاً: بأن قطر تأتي في آخر القائمة المموِّلة للإرهاب.. فماذا يعني ذلك كله؟
التصريح بالاستعداد القطري لفتح ملفات استخباراتها للألمان بعد التعامل مع دورها التصالحي من قبل دول الحصار الخليجية باستخفاف، هو رسالة هدفها السعي لفرض تعديل مواقف الجميع تجاه أزمة الخليج، وتغليب مواجهة دعم الإرهاب وليس استخدامه، وكذلك للردِّ على عدم الاهتمام الذي أبدته الدول الخليجية، ومنها السعودية تجاه الدور الألماني.
ففتح قطر لملفات استخباراتها أمام الألمان سيشكل كارثة لإدارات الدول المتورِّطة باستخدام الإرهاب تأتي في أول القائمة الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، كذلك بعض الدول الخليجية.
ربَّما يكون اطلاع ألمانيا على تفاصيل اللُّعبة الأميركية كلِّها في المنطقة باستخدام الإرهاب عبر تقديم أدلَّة دامغة تُثبت تورُّطهم فيها، سيجعل التداعيات كبيرة جداً ومؤلمة على هذه الدول المتورِّطة وعلى أجهزة استخباراتها وحكوماتها، وسيضعها في زوايا ومربّعات إطاحة هذه الحكومات وشرعياتها أمام الرأي العام الغربي أقله.
تُعتبر الخطوة الألمانية القطرية غير عادية ومنسَّقة وبتدبير مُحْكم بفتح الملفات الاستخبارية أمام الألمان. وهو تطوّر على ما يبدو قلب المعادلة ودفع بالمملكة المتحدة أن تتدخل مباشرة على الخط لحلِّ الأزمة الخليجية، ودفعت بأميركا لأن تُعيد الحياة للوساطة التي دفنها خصوم قطر، وهو ما حوَّل موقف الإدارة الأميركية لصالح قطر بشكل ملحوظ في هذه المرحلة على الأقل.
أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية