حكمت حسن في «مسمار»… روح شباطيّة تعصف شعراً
زياد كاج
هي من مواليد شباط العاصف، أبصرت النور في عام النكسة، لكنّها في مجموعتها الشعرية الأخيرة «مسمار» دار نلسن، في 186 صفحة ، صرخت بصمت مدوٍّ: «سأحارب».
حكمت حسن، شاعرة حقيقة، صادقة حتى ملامسة نور الحق. لا تخشى القول على حافة الأشياء، حافة المهوار. شاعرة بقلب فراشة وحكمة شيخ وجناح ملاك!
يقول الشاعر والمفكّر قيصر عفيف، صاحب دورية «الحركة الشعرية»، إنّ الشعراء لا يفعلون شيئاً، إنهم فقط يحتفلون بالحياة.
و«شاعرة الشحّار» حكمت حسن، تحتفل بالحياة على طريقتها: بحكمة المقاربة والقول الحسن والرؤية الكاشفة. خلطتها من زمان ومكان وعدم قنوط من الإصرار على إدراك الثبات واليقين. تفرم الكلمات فرماً، كأنها تصنع «التبّولة». كمّية الحزن، والحنين، والحب، والروح الشرقية، واستحضار الماضي، وأنسنة عناصر الطبيعة ورشة حياة. كلّها لافتة وموظّفة جيداً في «مسمار».
لا تطفئ الشاعرة شمعة العيد، تنام على سلام سرّها الداخلي، رغم الظلام والضجيج المحيط بها، والذي يقرع بقوة باب عالمها الخاص. تصرخ بصمت يصمّ الآذان. تلعب مع الحزن فتحوّله لذة، حركة غيوم، جدران بيوت، أطياف لناس مضوا، حبراً ينتصر، قامات زهر، وثلجاً متراكماً. أوليس الشاعر على مرّ العصور وفي الأمكنة كلّها، غريباً بين غرباء؟
في قصائد حكمت الكثير من «كمّ الأفواه» الممارَس إراديا وبكل طيبة خاطر، لذلك أتت قصائدها قصيرة نسبياً تشبه أنفاسها المتقطعة مع كل شهيق وزفير. تكاد تقول اشياء، فيخيّل اليك مع قفلة، أن يدها ضغطت بقوة على فمها، فيكون تقطيعاً شرقياً محبّباً، يفهم كجزء من ثقافتنا المعاشة.
حاطبة ليل جبلية أصيلة «شاعرة الشحّار»: تقطع جملها الشعرية الصادقة حتى النخاع الشوكي، استعداداً لموسم شتاء قارص، كي نتدفأ بنار مشاعرها المستعرة في أعماق وجدانها. هذا السفر العميق الذي تهوى ركوبه من أجل الخلاص والنجاة، تؤثره علنّا ننجو نحن معها.
عبارات شعشعانية وردت في «مسمار» سمّرتني أمام الورقة طويلاً: «ظلال مستكينة… كنت تذكرة مروري… ثمة رمح مرّ… شجرة بطول عشرين سنة… أحزاني لا صوت لها.. أأدفع ضرابي من دمي؟… نهض الحبر منتصراً… الشرق نفض تاريخه… تقديم القرابين ليسعد الماضي الحزين… العطور المكتفية بنفسها… الأسئلة أجنحة ملائكة صغيرة… أرواحاً غير قابلة للخدش».
من روح شباطية، أنشدت الشاعرة قصائدها التي أتت على كثير من الحدّة، كثير من الصراع، وغضب ثم هدوء الطبيعة، وسط حالة من الاتحاد والتماهي مع الوجود. فالجسد لا يكبر الا مع ظلال الماضي، ولا يتطهر الا بالألم، والذاكرة محتشدة بالاشخاص، وسط عالم يبدو غرائبياً بعض الشيء، يأنف من عالم المادة، ويأنس لعالم النفس والروح.
للقلب وشجونه مكانة خاصة في «مسمار». الكتابة عنه بالجمر لأنه يدمّي الزمن، فالقلب هو مكان خاص للتعبد الروحي. والحب والخلود الروحي وسيلتان للتحليق والطيران. الشاعرة تقارب موضوع الحب بحذر، تقسو على نفسها، مستعينة بطيب البرعم وترنح الهواء والقطافين وكف الشمس. يقترب عندها الحب إلى طقس ديني، عدّته البخور والهياكل والظلال والشموع… لا تحسب فيه اللقاءات، فالحبيب مرآة الحبيب. يكتمل بدر القلب بألم الفراق… فيكون قلق الوجود دولاب النجاة.
للطبيعة العذراء حيّز كبير في شعر حكمت حسن وهي الابنة الشرعية لبيئة الجبل. تحدّق في الغيم، لزهرها قامات، ولغيومها قصائد، مطرها يتثاءب، وضبابها أبيض ثقيل، ولخريفها حافة، ولماضيها أظافر. فجأة تكشف لنا شغفها بالبحر، تترك البرّ، وتغوص في الأعماق لتلعب لعبة الشمس والضوء والظلّ مع الاسماك.
في «مسمار»، تحيا الشاعرة حياتين: حياة من المادة وأخرى من الروح. تمشي بحذر على حبلين مشدودين، تحرق أعصابها، تجرّنا بسهولة للتماهي معها. تقاتل لبلوغ الثبات لكسر الشرق الثقيل الذي يحاصرها لدرجة الاختناق، لكنّها تتلذّذ بالعذاب وتبدع بكلّ قبول وخشوع وحكمة.
من القصائد التي أحببتها: «عَظَمة»، «مسيرة»، «إنسان»، «إنكار»، «إرادة»، «تأجيل»، «يوشك أن»، «ألفة»، «إنقاذ»، «أنا»، و«انفجار برج البراجنة».
يقول فرانيس بيكون، الفيلسوف والعالم والقاضي الانكليزي الذي عاش في القرن السابع عشر في موضوع الكتب وأنواعها: «بعض الكتب يجب أن يُذاق، وبعضها يجب أن يبلع، والقليل منها يجب مضغه وهضمه». ما يعني أنّ بعض الكتب يجب أن تُقرأ أجزاء قليلة منها، وبعضها يُقرأ بحشرية وتركيز، والقليل منها يُقرأ بالكامل وبتمعّن وتركيز شديدين.
أقول بكلّ تجرّد إنّ «مسمار» من الفئة الثالثة.
حكمت حسن، لقد عقدت قرانك الشعريّ بـ«خاتم»، وثبّت مكانتك الشعرية بـ«مسمار»، ونحن على أمل بثالثك يحمل لنا أمل قوس قزح.
حكمت، يا بنية «البنية»، حقاً تستحقين لقب «شاعرة الشحّار».