«سندريلّات مسقط»… أسرار نسوية في رواية

صبحي فحماوي

هدى حمد، كاتبة عُمانية، صدرت لها ثلاث مجموعات قصصية عن «مؤسّسة الانتشار العربي»، وهي: «نميمة مالحة»، «ليس بالضبط كما أريد»، «الإشارة برتقالية الآن». وثلاث روايات، هي: «الأشياء ليست في أماكنها» التي حازت على المركز الأول في مسابقة الشارقة للإبداع العربي 2009، وجائزة جمعية الكتّاب والأدباء، كأفضل إصدار في السنة نفسها، ورواية «التي تعدّ السلالم»، و«سندريلّات مسقط» الصادرة عن «دار الآداب» في إطار «محترف نجوى بركات».

وكانت قد أرسلت إليّ روايتيها الأخيرتين مع صديقتها المهندسة رانية العكش التي تعود لتُصيِّف في بيت أهلها في عمّان. قرأت روايتها «سندريلّات مسقط» التي صدرت عن «دار الآداب» بيروت عام 2016، فكان هناك عشاء شهري تجتمع فيه النساء تحت شعار «سندريلّات مسقط» في أحد مطاعم المدينة، لتمارس كلّ منهنّ دورها في الحكي.

عندنا يقولون إن المرأة لا تستطيع أن تخفي أسرارها لأكثر من ساعة. والساردة تعزّز هذا الرأي، بقولها: «الأسرار قهوة النساء وشغفهن وسرّ توجّههن» ص 18 ، فكيف بتينك النسوة، اللواتي ينتظرن شهراً لينطقن بالكلام المباح؟ تقول الساردة: «نحن نحكي لنعود إلى بيوتنا خفيفات جدّاً ص 29 . شعرتُ أن هذا الصبر الشهري، تضحية.

أعجبتني عتبة الرواية المُعتمِدة على ما تتمخّض به هذه السهرة النسوية من سرديات إذ كانت كلّ امرأة تسرد قصة حياتها، أو أهم الأحداث التي حصلت معها.

فهذه «زبيدة» تقول إنه قبلما كانت البلاد مضاءة بالكهرباء، كانت الجنّيات هي المسيطرة على أحداث القرى والمدن، ومصدر الخرافات والغيبيات، وحتى الحكايات والقصص، وأما بعد إنارتها بالكهرباء، فلقد اختفت الجنيات، وانطفأ التأمل، ومات الخيال. ولم تعد هناك امرأة تذهب إلى حظيرة بقرتها بحجّة حلبها، أو لتجلب الماء من بئر بعيدة، في حين هي تنتظر حبيباً يواقعها الغرام. وهكذا حلّت اجتماعات النساء محلّ تدخّلات قوى الجنّيات، لتسرد كلّ واحدة منهنّ قصة من قصص حياتها، أو قصّة حياتها كلّها، كما جاء في أجزاء هذه الرواية، حيث تسرد كلّ امرأة قصة حياتها، لتكتمل الرواية بوفاة العجائز، وولادة الجيل الجديد.

وتقول «زبيدة» إن الآباء والأجداد يعجزون عن تصوّر ما يحدث لهذه النساء في هذه «الخروجات»، فهن يتغيّرن بنتائج حواراتهن في مطعم السرديات، بينما هم يقومون بواجب الأطفال في تلك الليلة، التي يقضيها الأطفال من دون دموع الدلال على أمهاتهم.

وفي المطعم حيث تحكي السندريلّات تسري روائح حرارة أجسادهن في الهواء، ليستنشقها الرجال مجاورو الطاولة النسائية بشهية.

يشعر «نوف»، رئيس طبّاخي المطعم، أن لطبيخ هؤلاء النساء نكهة خاصة تتفوق كثيراً على كل نكهات طبيخه، خصوصاً أن لهنّ حرية الدخول إلى مطبخ المطعم، وتقليب بعض الأطعمة المطبوخة أو المشوية أو المقلية هناك، ما يجعل رئيس الطباخين، الشيف «رامون»، يتحدث معهن في أمور الطبخ والمجتمع، ويعرض عليهن أن يأخذ الفرصة للاختلاء بواحدة منهن، إلا أنه يشعر بخيبة أمل، على ذمة الساردة، لكن «رامون» يقول لاحقاً إنه ذهب وحده إلى منازلهن عدّة مرات ليكشف سرّ كلّ واحدة منهن: «لقد ذهبت إلى منازلكن عدّة مرات لأكشف السرّ وحدي…» صفحة 27 .

بينما تسرد «فتحية» قصة حبّها لـ«حمد»، ابن الجيران، وخطوبته لها، «كانوا غير مصدّقين أن يطرق بابهم عريس» ص 38 . وتذكّر كيف شفط لها طبيب لبنانيّ ماهر الدهن عن بطنها، فضيّق خصرها.

وتذكر «سارة» أنّ الموت يقرف من جدتها فلا يزورها: «أشياء كثيرة في حياتنا كانت مؤجلة إلى لحظة موت جدتي هذه » ص 51 . لنقرأ أن البنت وأمها تقرفان من الجدّة «التي تخبّئ النقود حتى تقرطها الفئران، وقد تكون قضمت أصابع جدتي معها»، تقول ساخرة من جدتها: «تخيّلت جدتي تجلس وحيدة في غرفة انفرادية في المستشفى بصحبة فئران تقضمها…» ص 53 . وتوضح في الصفحة 57: «لسان العجوز الوسخ يرجع لأنها لم تكن تصلّي، وعندما تأخذها أمّي للوضوء، كانت العجوز تكتفي بأن تبصق في وجه أمي إنها تتمتّع بذاكرتها وبصحّتها، ولا تصلي! هل يعقل ذلك؟». وتقول أيضاً: «كانت أمي ترغب بشدّة في التخلّص من العجوز لأن العجوز كانت تفسد كلّ شيء » ص 59 .

ذكّرني قولها إن «العجوز مسكينة ومصابة بالخرف» بمسرحية لويجي بيراندللو المترجَمة في مصر بعنوان «كلّ شيخ له طريقة»، حول عجوز قد تكون خرفة، أو قد تكون مظلومة في بيت زوجة ابنها، ولكن الابنة والأم متّفقتان هنا على كراهية العجوز: «ليس ثمة ما هو أصعب من إرضاء عجوز خرفة» ص 60 . كانت أمي تقيّد يدَي أمها العجوز وهي تطعمها، ولم تنادِها ذات يوم بـ«الوالدة»، أو «أمّي»، حتى أنّ «الموت قرف منها، فتأخر كثيراً عن قدومه إليها…» ص 61 .

وعندما ماتت جدّتها العجوز لم تحزن الحفيدة بل قالت لسندريلّاتها: «أظنّ أنني سأفتقد شتائمها المحلّقة في الهواء، والمنسجمة معها » ص 62 .

وتحكي «ماسي» عن اهتمامها بتكبير ثدييها الماسحَين، بهدف حصولها على عريس يقبل بها: «أذهب إلى الاختصاصيّة التي تحدّد لي نوع طعامي ورياضتي كي يبرز لي نهدان، لا يُعقل أنني في السادسة والثلاثين وما زلت امرأة مسطّحة». ونظراً إلى شكلها غير المثير للذكورة، فإن خطيبها فسخ خطبتها وهو يقول لها: «لا أريد أن أعيش مع امرأة بلا تضاريس».

وهذه «ربيعة» المهتمة بصدرها الجميل، نجدها بعكس «ماسي». إذ تقول: «لا أحد يستطيع تمييز صدري النافر، ولا جسدي البضّ…». تقول إن زوجها يحبّها، ويغار عليها، ويطلب منها التوقف عن الخروج مع «ناهد» التي أدخلت في رأسها فكرة الطلاق، ماذا لو تطلّقنا؟ أقول له، فيقول: سأسكب على رأسي البنزين وأحترق به.

وهكذا تستمرّ الحكايات حتى تصل الساعة إلى الثانية عشرة ليلاً، حيث يتوقف الكلام المباح وتعود كلّ امرأة إلى بيتها، حيث ينتظرها زوجها وأولادها بفارغ الصبر، بينما تحلب هدى حمد من تلك السهرة رواية لها بعنوان «سندريلات مسقط». وتفرح لهذا الإنجاز الذي يجعلها هي تبقى في مكتبات القرّاء وعقولهم. ولا تفنى كما فنيت تلك العجوز التي ماتت شرّ ميتة. وهي بذلك تسير على هَدي نزار قبّاني الذي يقول: «كلّ الدروب أمامنا مسدودة… وخلاصنا بالرسم بالكلمات».

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى