الصداقة… نبض حياة وعزاؤها

نظام مارديني

.. إلى فاطمة ومردوك ..

لم أكن أدري كيف كان سيمضي نهاري والأذرع المُحبّة تتشبّث في ضوئه. فأنا من هؤلاء الذين يتردّدون كثيراً في تلبية دعوات الأصدقاء والأحبّة، وهذا ليس انتقاصاً من قيمة الدّاعين بقدر ما هو «الخوف» من أن يضيع شارع الحمرا منّي ولا ألتقيه مرّة أخرى. يقول صديقي نسيم القعقور لزوجته التي طالبته بدعوتي للغداء معهم خارج بيروت.. أجابها قائلاً: أعوذ بالله، نظام لا يستطيع مفارقة «الحمرا»، فهو لن يعرف أن يرجع إليها وسيضيع من حياتنا بعد ذلك، ولن نستطيع العثور عليه حتى ولو استعنّا بالكلاب البوليسيّة!

مقدّمة هذا الكلام تأتي بعد تلبيتي دعوة غداء من الصديقَين العزيزَين، الفنّانة التشكيليّة فاطمة إسماعيل وزوجها الشاعر مردوك الشامي، وبعد إغراءات عديدة منهما دامت ثلاثة أشهر، ليس أقلّها أنّ موقع سكنهما يطلّ على الجبل الأخضر من «ميلة» وعلى البحر من «ميلة» ثانية. ويكفي أن يكون إغراء «ميدو» مردوك مردوك الشامي العيد الذي سيجمعنا..

أذكر كيف ارتجف قلبي وأنا أرى «ميدو» فاتحاً ساعدَيْه لاستقبالي أمام الباب، وكأنّه طيرٌ يتمايل في فضاء، فيغمرني بقوّة أدهشتني، كيف لطفل لم يكتمل وعيه أن يعرفني وهو لم يلتقيني سوى مرّات متقطّعة، كان ينظر إليَّ عاتباً، لماذا لا أراك عندنا عمّو نظام؟

1

ألهمني الصديقان العزيزان، الفنّانة التشكيليّة الجميلة فاطمة إسماعيل، والشاعر القدير مردوك الشامي، بكلمتهما المقتضبة، المنشورة في صفحة فاطمة 25 حزيران/يونيو الماضي ، وذلك بمناسبة قضائي يوماً كاملاً بضيافتهما، في أول أيام عيد الفطر.

قرأتُ النصّ مرّات عديدة كي أكتشف هذا البوح والحنين إلى العلاقات الراقية التي بتنا نفتقر إليها بكلّ أسف، فقد بهرتني كلمتهما والتقاطاتها الضوئيّة المميّزة وجمال صورها الباذخة، وكأنّهما رسما بكلمتهما «نزهة» انحناء الورد في لحظة انبهار الشمس على اللقاء الذي جمعنا بوجود الشاعرة الجميلة ليلى الداهوك وولديها، بالإضافة إلى صديق العائلة الشاعر كرم عيسى.

2

فاطمة.. زيزفونة مردوك الشامي.. هي بهجته وصباحه.. وجودُها يصيغ فرحاً دائماً لانحناءات وقته.. يُشعل زوبعة في راحتَيْه لتحمرّ أوردة كفّيه وهي إذ تبتسم لحيرتها وتصَفّق لتطلّعاتها المزهرة في أوج عمرها.. ومن تكن بهذه الروح الطيّبة فلا وقت لديها لتوزّعه بين التساؤلات التافهة والترّهات، بل نراها تنثر على الدروب بساطها المزركش بخيوط المحبة السرمديّة، و»كريستالات» الفرح.

الدهشة الطفوليّة على وجه فاطمة، والحميمية التي تبثّها عبر صوتها الهامس تعكس طيبة قلب لا متناهية وروحاً إنسانيّة نبيلة، فالحبّ لديها لا حدود له.. لا فلسفة له.. الحبّ لا يعرفه أحد قبل اكتمال التجربة. فهو الأكثر إضاءةً وجذباً.. وهو في اعتقادي، أحد المفاتيح الرئيسة للدخول إلى عالم هذه الفنّانة الرحيب.. عالم المرأة الرمز.

لا تزال الجملة الشهيرة للوجوديّة سيمون دي بوفوار تلقي بظلالها، لا على الدراسات النسويّة فحسب، بل حتى على المجال النقديّ التمثيليّ عموماً. الجملة تقول: «لا تولد المرأة امرأة، بل تصبح امرأة».. أي لا تولد امرأة كما هي في سياقها التاريخي، بل يُعاد خلقها كامرأة كما تريدها ذات المستشرق، التي يُراد منها دائماً أن تكون حقولاً أنثويّة محتاجة دائماً إلى الذكر.. أي الأنثى الخاضعة الخنوعة، الأنثى المستعبَدة، الأنثى التي تنتظر مَن يحرّرها من شرقها. ولكن للفنّانة فاطمة رؤية جماليّة تحريريّة أخرى، فالمرأة عندها، أو الأنثى، هي من روح وخصوبة.. هي امرأة من حياة بكلّ تلاوينها الإنسانيّة. امرأة ممتلئة بالـ»حماسوية» العاطفيّة عندما استكان جسدها نسيماً بعدما بُنيَ مدماكاً مدماكاً على ناصية ريشتها المدهونة بالدهشة. هي أجساد نسائها التي تعبت من الظلّ فتدحرجت نحو غبار الضوء من خلال أناملها وروحها وإنسانيّتها.. هي نساء مرسومة من رحيق شتلة الزعتر وزهرة الياسمين، وأيضاً من لحم ودماء وروح، لأنّها ريشة تعمل بنبض التحدّي.. تحدّي المقدّس، الموروث، من العادات والتقاليد.

فاطمة التي ترقص بين أحرف قصائد مردوك، ها هي تلامس مجده المترامي الكلمات والأحرف بالريشة واللون.

3

لا يمكنني القول إلا بأنّ هناك من الصداقات الكثيرة التي لا تنمو وتزدهر إلا في بيئة واعية تحتضنها وترعاها، رغم أنّها مليئة بالذكريات الحلوة منها.. والمُرّة أيضاً. وليس غريباً هنا أن يعتبر المفكّر النهضوي أنطون سعاده، بأنّ «الصداقة تعزية الحياة». أي هي المشتل لكلّ الجذور المولّدة لأفراح الحياة وأتراحها.. هي بؤرة الإشعاع والتألّق للقيم والفضائل كلّها، إذا نجحت.. ولكن لماذا لا تنجح؟

عادةً ما أتوحّد مع صمتي وأُصغي إليه، وأتفرّج على عزلتي، ولكنّكما تعيدانني رويداً رويداً إلى عالمنا المشترك من الثقافة والفكر والفن والحوار، والاختلاف.. همممم، هو «الاختلاف» الذي يختلف عليه الجميع، رغم أنّ هذا «المصطلح» الجميل يقف بطوله «الجدليّ» أمام مرايانا المكسورة ولا يحتفي بالمُتاح من الأفكار.

لا نزال نتذكّر، مردوك وكاتب هذا المقال، كيف كانت أيّامنا تركض في أزقّة أعمارنا الحافية ونحن نتنقّل في مدينتنا القامشلي شمال شرق سورية ، من شارع إلى شارع، ومن حيٍّ إلى حيٍ. كيف كنّا نسمع موسيقانا المتنوّعة، من ماردليّة عربية وسريانيّة وكرديّة، في ضجيج حياتنا، أو نرقص في ممرّات ضوئنا الذي لا ينطفئ.. كيف كنّا نتمدّد على بساطنا الأخضر كلّما جئنا بصباح جديد وعدنا مبلّلين مساءً بمياه نهر «جغجغ» كي نغسل النجوم وهي تهوي كريشة قوس قزح ملوّنة على سطوح منازلنا.

ولأنّ الكلمات لن تمحو الكثير بثقل حروفها عن القامشلي، فهي أيضاً لن تكسر بلاغتنا المجوّفة، وحقائقنا التي يكاد أن يصيبها الغيب، غير أنّ القامشلي هي مِن المدن التي لا تفارق تاريخها.. هي تحتفظ أبداً بروح سورية المتعدّدة «الألسن» والأصوات.. حكايا أساطيرها ليست أوهاماً، شقوق لحائها قلوب، ولكن ليس لعشق الصبايا، وهي ليست ديكوراً نكرة لخضرة الطبيعة الصامتة، إنّها تأريخ ذو فم، وقصة تُعاد وتُستعاد.. سعيد مَنْ يسكن القامشلي. أماكنها ستبقى تروي قصصاً من الأمل.. كانت ظلّنا الدائم، وكلّ أشعارنا ورواياتنا.. ولكنّها الحياة يا صديقي مردوك، التي يبدو وكأنّها ضجرت من أصابعنا وهي تلهو بماضٍ ينام خلف نافذة الكون، وتسعى جاهدة لعلّه يصحو ويعبث من جديد بأزرار حبوب مراهقتنا وفَيْء ضجيجنا كي نعثر على ما هرب من طفولتنا ونحن نكنسُ ظلالنا، الصغيرة الصغيرة الصغيرة، المتّجهة نحو الضوء.

كنّا نضحك على القيود التي وضعتها العائلة أو المجتمع، والمفاتيح المتوتّرة التي تتركها «الأنثروبولوجيا النفسيّة» في رأسينا ونحن نكتشفُ أسرار العالم أكثر.

4

كان لجهار ابن مردوك في هذا اليوم حصة الأسد من الحوار بيننا عن طموحه ورؤيته للفنون. فهو شاب في مقتبل عمره، يسعى إلى اكتشاف ذاته ويولي اهتماماً بالتجارب الموسيقيّة الحديثة. دخل إلى الموسيقى من باب الموهبة، وكان لا بُدّ أن يسجّل في الكونسرفتوار ليُعبّد طريقه العلمي في أصول الموسيقى التي هي محرّك حياته النابضة، إذ بدون وجودها لا يمكن تصوّر وجوده الإنساني.

5

أضْفَتْ شاعرتنا الجميلة ليلى الداهوك.. رونقاً على هذا اللقاء، فهي تشكّل العمود الثالث من «السيبة» التي تجمعنا، أنا ومردوك، من عشرين عاماً أو أكثر.. لا أزال أتذكّر كيف كانت شعلة حركة في الليل والنهار، وكان طموحها هو النجاح في الوصول إلى قمّة المعرفة، وقد نجحت رغم ظروفها الصعبة في أن تشكّل موقعاً لها في عالم الشعر والفكر والإعلام، ويجب أن تكون مثالاً يُحتذى للكثير من النساء في هذا البلد الطيّب، ولكن قبل كلّ شيء في أن يؤمن ولداها بأنّ أمّهما هي مثالهما الأرحب والأكثر دفئاً للعبور نحو النجاح.. لليلى الداهوك أقول، أنت مفخرة نساء جيلك.

خلجة

لأنّ الحب حاجتنا القصوى، وخسرانه فاجعتنا الكبرى.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى