إضاءة على سيكولوجيا التعصب…
د. رأفات أحمد أحمد
إنّ اشتقاق كلمة المتعصّب Fanatique يرجعنا إلى Fanum المعبد أو الهيكل ومن مترادفتها «Illumine المستنير» والذي يعتقد أنّ الآلهة توحي له. وهكذا، فإنّ المتعصّب يظن متوهِّماً أنه مكتشف الحقيقة المطلقة ما فوق البشر، وأنّ له كلّ القوة والسلطان وكلّ أشكال التفوق والتميز التي خصّته بها الطبيعة لا لشيء، فقط لانتمائه إلى ذاك الدين دون سواه أو انتسابه إلى شجرة العائلة تلك دون غيرها أو ذاك الحزب وليس غيره، وكأنّ لدى المتعصِّب حالة من النكوص الطفلي لمرحلة الطفولة الأولى حين يعتقد الطفل أنّ هذا العالم ملك له وأنه خُلق لتلبية رغباته وأنّ كلّ ما يحيط به خاضع لهذين الهرمين الكبيرين الأب والأم الذين وُجدا فقط لتلبية رغباته.
يُعرف التعصَّب بأنه تبني أفكار واتجاهات وسلوكيات معينة والإيمان بها بشكل مطلق غير قابل للنقاش أو الدحض مع وجود رفض ونبذ واحتقار للآخر غير المتبنّي لهذه الأفكار والاتجاهات أياً كان هذا الآخر رجل. امراة، حزب…إلخ .
جوهر حالة التعصب إذاً هو رفض الآخر واحتقاره واعتباره مجرداً من أي حقّ من حقوقه الإنسانية بما فيها حقّ الحياة لمجرد أنه يختلف عن ذاك المتعصب بالأفكار والاتجاهات.
المتعصِّب هو شخص غير قابل للنقاش يرفض تماماً حالة التبادلية الفكرية وحالة الدخول في مداولات حول صحة ما يعتقد فهو لديه يقين قطعي غير قابل للإثبات أصلاً علمياً أو واقعياً أو حتى منطقياً. وهو يعلم بقرارة نفسه أنّ أي نقاش علمي يستدعي استحضار البراهين سيوصله إلى التشكيك بالمسلمات التي يتعصب لها وبالتالي قد يقود ذلك إلى تفنيدها لذا هو ينأى بنفسه وبأتباعه عن العلم والحوار والنقاش مكتفياً بإضفاء سمة الألوهية والإطلاق والكمال على ما يتمسّك به ما يضمن استمرار حالة التعصُّب.
لا بدّ لنا من التمييز بين المتعصِّب الأصلي والمتعصِّب المُنقاد. فالمتعصب الأصلي هو الذي بيده مفاتيح الحِراك المتعصِّب بمعنى أنه هو الذي يعطي الإذن للمتعصِّبين المُنقادين بممارسة التعصُّب قولاً وفعلاً. وهو بقوته وجبروته وسلطانه عليهم يمنحهم الغطاء الشرعي لكافة السلوكيات النابعة عن التعصُّب. هؤلاء عادة، أي «المتعصبون الأصليون»، يتميزون بالنرجسية العالية والوساوس القهرية المتعلقة بموضوع التعصُّب.. كيف لا وهم المصطفون! الذين اختيروا للدفاع عن فكرة دون غيرهم لدرجة قد تصل إلى قتل النفس أو الآخر دفاعاً عنها!!
أما المتعصِّبون المنقادون فهم أؤلئك الضعفاء فكرياً ونفسياً والذين يبحثون عن شخصية إجرامية متسلطة يحيلونها شماعة لتُعلَّق عليها سلوكياتهم المتعصبة وعدوانيتهم المُحتملة تجاه الآخر. هؤلاء هم الذين يعِّول عليهم المتعصِّب الأصلي لتنفيذ وممارسة أفكاره المتعصِّبة فمن الطبيعي إذاً ألا نتوجه توجهاً إليهم في محاولتنا التصدي لظاهرة التعصُّب بل وجب علينا التوجه مباشرة إلى «المتعصِّب الأصلي» لإحداث التغييرفي فكره وسلوكه لينقاد فيما بعد أتباعه كتحصيل حاصل للتغيير الذي تحقق.
لفهم سيكولوجيا التعصب لا بدّ لنا من شرح العلاقة بين الجماعة المضطهَدة والمضطهِدة. فكلما زاد اضطهاد الجماعة المضطهِدة بحقّ المضهَدة كلما انكفأت هذه الأخيرة على ذاتها وانطوت أكثر في سلوكها وتفاعلاتها اليومية مع الجماعة المضطهِدة مع تجذر عميق لشعورالعدائية والكره. فكلما ازداد تقوقع الجماعة المُضطهَدة وانطواؤها وابتعادها عن الجماعة المضطهِدة كلما نشأ ما يُعرف بـ»التحامل» لدى الجماعة المضطهَدة وهذا المصطلح يشير إلى اتهام الأولى المضطهدِة للثانية التي تعاني شعور الاضطهاد بعدم أهلية التواصل وبضرورة الابتعاد عنها وتجنبها بل ومعاقبتها.
وهكذا دواليك تتشعب الحلقة وتتعقد وتتعمَّق الفجوة بين الجماعتين ليتغذى التعصب أكثر وأكثر.
ولكن من أين ينشأ هذا الاضطهاد المغذّي للتعصب بين الجماعات؟
مهما تعددت الوصوفات والتحليلات المرتبطة بظروف المجتمع والتربية السائدة فيه فإنّ الاضطهاد ينشأ من منبعين أساسيين: الأول ضعف سلطة القانون وضياع هيبته في تحصيل واسترداد الحقوق لأصحابه وإنصاف المظلومين. والثاني منشأ الاضطهاد الزائف المفتعل غير الحقيقيٍّ.
عندما يجد الفرد، المنتمي إلى منظومة اجتماعية متكاملة دولة، مجتمع.. ، أنّ القانون السائد في هذه المنظومة لا ينصفه في حقوقه ولا يعطيه شعوراً بالأمان في انتمائه إليها، فإنه يلجأ إلى منظومات فرعية مكوِّنة للمنظومة الكلية حزب سياسي، طائفة دينية، عائلة ممتدة لعشيرة ما..إلخ لتحصيل حقوقه وضمانها. فما أن تنجح هذه المنظومة الفرعية، وحكماً أنها ستنجح بحكم ضعف القانون العام وانقسام الأفراد إلى طبقتين طبقة فوق القانون وأخرى تحته وبحكم قوة ارتباط الفرد بالمنظومة الفرعية، فإنّ انتماء الفرد إلى المنظومة الفرعية سيزداد قوةً وصلابةً وستزداد ثقته بها وبالتالي سيزداد شعوره بالتعصب لها.
أما الاضطهاد المفتَعل فهو الذي يتم العمل عليه من جماعات خارجية تحاول خلق الإحساس بالاضطهاد لدى الأقليات والجماعات المكوِّنة للمجتمع الكلي بقصد السير بأفراده وجماعاته الفرعية للانغماس بسلوكيات الاضطهاد والعدائية التي أسلفناها وبالتالي يزداد التعصب ويتعمّق في المجتمع.
في ضوء ما ذُكر، من الطبيعي أن يُطرح تساؤل عريض عن الاستراتيجيات الأمثل لمواجهة مرض العصر: «التعصب» ومن الطبيعي جداً أن يكون الجواب: انتفاء العوامل الرئيسة المسببة له.
فبسيادة القانون وتطبيق مقولة «القانون يعلو ولا يُعلى عليه» سينتفي العامل الأول الذي يقود إلى التعصب وسيتشكل وعي لدى أفراد المنظومة المجتمعية بأهمية هذه المنظومة وقوة قوانينها ويترسخ لديهم شعورٌ قوي بالانتماء إلى كليتها ليتشكل لديهم الوعي الكامل وهو الدرع الأمضى في مقارعة محاولات خلق وبث الاضطهاد الزائف في المجتمع، المنبع الرئيس الثاني للتعصُّب.
دكتوراه في التشخيص والعلاج النفسي
دراسات عليا في علم النفس الإعلامي