في ثورة 23 يوليو والنهضة العربية
زياد حافظ
نحيي هذه الأيام الذكرى السابعة والستين لثورة 23 يوليو التي شكّلت تحوّلاً كبيراً في مسار الحركة التحرّرية العربية التي بدأت في عصر النهضة في القرن التاسع عشر. فهناك مَن يسأل ماذا بقي من ثورة 23 يوليو ولماذا نحتفل بها؟ المشكّكون كثر ولكنهم مخطئون. فثورة 23 يوليو ما زالت ثقافتها موجودة في خطابنا السياسي ومشروعنا النهضوي العربي. فهي امتداد لحركة النهضة التي كانت في البداية ردّة فعل على توغّل قوى استعمارية في بلاد المشرق العربي في أواخر القرن الثامن عشر وبداية القرن العشرين، ونخصّ هنا حملة بونابرت وما حملت من تداعيات على مستقبل المنطقة. كانت ردّة الفعل آنذاك، في مطلع القرن التاسع عشر أنّ الأمة بحاجة لإصلاح في كنف السلطنة العثمانية، وكان من الطبيعي أن يتركّز على الإصلاح الديني. لكن سرعان ما زادت وتيرة التدخّلات الأوروبية في الوطن العربي بدءاً من المغرب العربي في احتلال الجزائر، ثم في مصر والسودان وليبيا، بعد الحرب العالمية الأولى بلاد الشام والرافدين.
لكن رغم عدم تكافؤ القوى بين المستعمرين الأوروبيين وبين القوى العربية المناهضة للاستعمار إلاّ أن روح المقاومة للمحتلّ كانت تتجسّد في انتفاضات عديدة كالمقاومة الشعبية في الجزائر في الثلاثينيات من القرن التاسع عشر، وثورة عرابي باشا في مصر في الثمانينيات من ذلك القرن، ومقاومة المهدي للبريطانيين. وفي القرن العشرين كانت ثورة عمر المختار في ليبيا وعبد الكريم الخطابي في المغرب، وثورة العشرين في العراق، وثورات عديدة في سورية مع يوسف العظمة وسلطان الأطرش وعبد الرحمن شهبندر وحسن الخرّاط وعائلة عياش الحاج وإبراهيم هنانو وفوزي القاوقجي.
نكبة فلسطين كانت انطلاقة لموجة ثانية من حركات تحرّرية وتغييرات في الوطن العربي. ثورة 23 يوليو جاءت في البداية كردّة فعل على النكسة التي سبّبها فساد النظام القائم في مصر. وكانت أيضاً تتويجاً لمسار نضالي طويل في مصر كما ذكرنا بدأ في عصر النهضة ثم مع ثورة أحمد عرابي باشا وسعد زغلول ومصطفى كامل والحركة الوطنية. لكن ما يمّيز ثورة 23 يوليو عن سابقاتها نقاط عدّة: الأولى هي النجاح في تغيير النظام والانتهاء من الملكية. النقطة الثانية هي أنها كانت سياسية واجتماعية في آن واحد. لم تكنّ تمرّد نخب على والٍ ومستعمر، بل كانت ثورة، وإنْ كان ظاهرها انقلاباً. النقطة الثالثة كان ارتباطها العضوي بالأمة. فالدافع الأول هو مقاربة لنكبة فلسطين وضرورة التغيير في مصر، كما كانت تداعيات تلك الثورة على الوطن العربي، فأطلقت موجة الثورات في مختلف الأقطار، من الجزائر، إلى العراق، إلى السودان، إلى ليبيا.
هناك مَن يردّد أنّ ما حدث في 23 يوليو في مصر عام 1952 كان مجرّد انقلاب لا علاقة له بأي بعد قومي. «فلسفة الثورة» لقائد تلك الثورة أوضحت أبعاد الثورة. فكأنّ الإصلاح الزراعي انطلاقة لحركة تحرّرية سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية عمّت معظم الأقطار العربية. كما أكّد الزعيم الخالد الذكر على ترابط دور مصر بالدائرة العربية والدائرة الإسلامية والدائرة الأفريقية، أيّ أنّ هذه الثورة كان لها البعد القومي العربي، والبعد الإسلامي، والبعد الأفريقي، حيث كانت معظم الدول الأفريقية ترزح تحت الاحتلال الأوروبي.
لسنا هنا في إطار ترداد إنجازات ثورة 23 يوليو، وهي عديدة ومفصلية في تاريخ الأمة. ما نريده في هذه المداخلة هو التركيز على المؤامرة الكونية بقيادة الغرب والكيان الصهيوني، وبمشاركة بعض الأنظمة العربية في ما يمكن اعتباره معاقبة جذرية لهذه الثورة وإجهاض علاقتها بمشروع النهضة. فارتباط هذه الثورة بفلسطين، وبالأمة، وبالمسلمين، وبالقارة الأفريقية، كما أنّ تجربة الوحدة بين مصر وسورية، من الممنوعات عندهم، فكلّ ذلك يجب أن يُعاقب. ما يصيب اليوم كلاً من العراق، وسورية، واليمن، وليبيا، وحتى مصر هو معاقبة إنجازات ثورة 23 يوليو السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وبالتأكيد ضرب الدولة المركزية ومؤسساتها في الدول كلّها وفي مقدّمتها ضرب مؤسسة الجيش. فالتغييرات التي عمّت الوطن العربي بعد ثورة 23 يوليو يُعمل على إجهاضها بل محوها. والأخطر من كلّ ذلك يُعمل على إلغاء الذاكرة والتاريخ وإعادة صوغ سردية جديدة لهذه الأمة عبر إقناع أبنائها أنها ليست أمة، وأنها ليست موجودة، بل إنهم مجموعة أعراق، وطوائف، ومذاهب، وقبائل، لا يجمعهم إلاّ أن يكونوا مستهلكين فقط عند المستعمر القديم الجديد الغربي. فسردية العولمة تلغي القضية الوطنية وفي مقدّمتها قضية فلسطين، وتلغي الهوية الوطنية والقومية.
ثورة 23 يوليو، كانت وما زالت، ثورة الوعي العربي. الوعي العربي وثقته بإمكانية نهضة الأمّة بأكملها. لم تستسلم هذه الأمة في يوم من الأياّم للغزو الخارجي، منذ بداية التاريخ، وبعد فتوحات الإسلام، وفي كنف السلطنة العثمانية. ما يُحاك اليوم ضدّ هذه الأمة، وفي مقدّمتها مصر، هو محاولة بائسة لتغيير ميزان القوة الذي بدأ يميل لمصلحة أبناء الأمة. الفضل لذلك بدأ بثورة 23 يوليو والتي تتلازم اليوم مع الثورة التكنولوجية في التواصل والاتصال، حيث أصبح من الصعب كتم الحقيقة واحتكار المعلومة والمعرفة أو منع إيصالها للشرائح الواسعة للمجتمعات العربية.
ما أصاب الأمة، وفي مقدّمتها مصر، هو الانحراف عن مسار ثورة 23 يوليو. فكانت ثورة 25 يناير وما تلاها من حراك شعبي صحّح مسار الثورة الأخيرة. غير أنّها لم تكتمل في رأينا طالما اتفاقية كامب دايفيد قائمة، وإنْ كانت تلك الاتفاقية بدأت تفقد مضمونها شيئاً فشيئاً. فالانتشار التدريجي للجيش المصري في سيناء يضرب جوهر كامب دايفيد في منع وصول القوّات المسلّحة المصرية إلى الحدود مع الكيان والتواجد بكثافة في كلّ سيناء. لكن النزعة الاستقلالية في مصر بدأت تعود تدريجياً وإنْ كنّا نتمنّى أن تكون بوتيرة أسرع.
عودة مصر إلى دائرة الصراع مع الكيان الصهيوني شرط ضرورة، وهذا هو الإرث الأساسي لثورة 23 يوليو. ولاءات الخرطوم كانت لتؤكّد مسار ثورة 23 يوليو في مواجهة العدو الصهيوني. فدور مصر أساسي في ردع التمادي الصهيوني في فلسطين وخاصة في محاولاته البائسة لتهويد القدس والاستيلاء على المسجد الأقصى.
ثورة 23 يوليو كانت ثورة التحرّر الاقتصادي والاجتماعي من وطأة الرأس المالية. أما اليوم، فالعولمة تعصف بالهويات الوطنية والقرارات الاستقلالية، وتفتك بالمجتمعات لتحويلها أسواقاً استهلاكية فقط لا غير. أعداء ثورة 23 يوليو أصبحوا اليوم في خانة العولمة، والتطبيع مع الكيان الصهيوني، ونقض الموروث الثقافي والتاريخي لهذه الأمة. أعداء ثورة 23 يوليو ضربوا العروبة وشوّهوا الإسلام. هزيمتهم تكمن في العودة إلى المسار الصحيح التي شكّلته ثورة 23 يوليو في تكريس حرية الانسان والأرض وإيجاد مجتمع التكافؤ والفرص، وتحالف مكوّنات الشعب في مواجهة العدو الخارجي والفتنة الداخلية والفساد الذي يفرزه الاقتصاد الريعي والطائفية.
أمين عام المؤتمر القومي العربي