المسافة بين المقاومة والإرهاب

د.رائد المصري

الإرهاب بصيغته المعاصرة يعود الى فترة الاستعمار الغربي البريطاني والفرنسي بالتحديد، ومن بعده الإرهاب الصهيوني في فلسطين المحتلة، والذي لا يزال، أما الإرهاب المعولم الذي نعيشه في أيامنا الآن، فيعود الى حقبة الجهاد الأفغاني، وذلك عندما استطاعت أميركا وحلفاؤها استبدال عمليات التحرر الوطني والقومي بالحروب الدينية وبالإسلام الجهادي.

اليوم تُعاد المعادلات الاستعمارية ذاتها، ويُعاد إنتاجها من جديد، فليس هناك حاجة إلى سايكس بيكو جديد، على الأقل في فترة الجهاد الأفغاني كان البديل الأنجع بنظر الغرب الاستعماري هو كتلة سياسية تتأسَّس على عسكرة الإيمان بالله لمواجهة أي عملية تحرّر وطني وقومي.

لقد تمَّ تعميم ظاهرة الأفغان العرب في حركة إرهابية معاصرة وفعل سياسي وإيديولوجي وعسكري، مع نزع صفة مهمَّة التحرّر الوطني أو القومي عنها، هذه الظاهرة التي امتلكت إمكانات مالية وعسكرية ووسائل إنتاج فكرية وشبكات إعلام ضخمة، وبلا مشروع سياسي تحرُّري، حيث تبنّى الخليج وبعض الدول العربية لحركات الإسلام السياسي، وقام في مصر تحالف بين السادات والإخوان على قاعدة القضاء على إرث عبد الناصر وكلِّ منجزاته، فأصبحت هذه الكتلة الفكرية ومنظومتها هي الأكبر وهي الأكثر تأثيراً.

لقد أنشأت أميركا وبريطانيا والغرب، وبدعم مالي خليجي وعربي، واقعاً انتقلت من خلاله حركات الإسلام الدعوي الى السياسي والعسكري والعمل الجهادي. فكان لا بدَّ من إدارة هذه القوة وضمان استمرار خضوعها لمنطق معادلات المعسكر الرأسمالي الغربي الاستعماري في عملية احتوائها والتلاعب في توجهاتها واعتماد أدوار استقطابية في إعادة تدوير لرأس المال العربي والخليجي.

وعليه لقد تمَّ استبدال العمل العسكري خلال فترة التحرُّر الوطني العربية، من كونه عملاًَّ تحررياً ضدَّ الاستعمار الغربي والصهيوني، إلى مشروع نشر الدين الإسلامي والنزوع نحو عَسْكَرَةْ هذا المشروع، وهنا ظهرت مكامن الخطورة، ولهذا تَغَيّرَ مجال العمل وأسلوبه وأدواته ومنطقه ومبرارته، وتغيَّرت معها البوصلة كلياًّ.

ضمن هذه المعطيات تشكَّلت أسُس الإرهاب في لعب دور يتناقض ويعادي العلمانية العربية والتحرُّرية في شكلها القومي واليساري والوطني، حيث تعمَّمت هذه الظاهرة ووافقت عليها قوى عربية وخليجية وتبنَّتها كمنهج استراتيجيٍّ.

ما يجري اليوم في أزمة الخليج هو محطة جديدة في مسار الصراع والاستخدام والتوظيف والاستقطاب، بحيث أصبحت قوى الإسلام الجهادي هذه عبئاً ثقيلاًًَ على بعض دول الخليج وبدأت خيوطها تتفلَّت منها. كذلك فشل رأس المال والأمن في إبقاء هذه الظاهرة ضمن سياق التحكّم المرغوب به، فلقد أفلس هذا المشروع ولم يَعُد يعطي النتائج المرجوّة وجاء الوقت للانتهاء منه واستبداله بجديد.

في هذا السياق نستحضر معركة جرود القلمون وجرود بلدة عرسال اللبنانية، والعملية التي تقودها المقاومة والجيش اللبناني، فثمة هناك محاولات ولو خجولة في انتقاد هذه العملية والتصويب على المقاومة ولو من بوابة الجيش اللبناني، وهو أمر قلَّ ما تشهده المجتمعات أو المجموعات البشرية على شاكلة بعض المتحوِّلين في لبنان والعرب من نُخب سياسية وثقافية وإعلامية.

القانون الدولي والشرعية الدولية يُدينان الإرهاب، وبالتالي لا يمكن وصف المقاومة بالإرهاب، ولا يمكن إلاَّ تشريعها وفق هذا المنطوق القانوني، لكن ما تريده القوى والأغلبيات الغربية والعربية والنظم العربية الرسمية، هو إلغاء مقاومة «إسرائيل»، وذلك عبر فصل المقاومة عن سياقها التحرُّري وعملها القانوني والشعبي، وفك منهج ارتباطاتها بمقاومة «إسرائيل» وحق الشعوب في تقرير مصيرها.

يسعى المستعمرون الغربيون ومعهم «إسرائيل» الى قلب هذه المعادلات وتحقيق تحوُّل تاريخي عبر إلغاء المسافة بين الإرهاب والمقاومة، ومحاولة توريط المقاومة في الإرهاب في عملية تشويه مقصودة، وتحويلها الى صورة سلبية، باستبدال مفردات ومصطلحات استفزازية يتعوَّد عليها الرأي العام العربي والمكوي أصلاً، فيُصار مثلاً إلى استبدال كلمة الشهيد بكلمة قتيل، أو إلغاء تداول مفهوم العدو الصهيوني، وصولاً الى استضافة متحدِّثين صهاينة والسماح لهم بالتعليق على عمليات المقاومة، ومحاولات ربط منجزات هذه المقاومة بالاستبداد من أجل تصوير «إسرائيل» بأنها دولة ديمقراطية.

في مجمل القول لا بدَّ من التأشير على أنه بعد الانتهاء من ظاهرة الإسلام الجهادي، والذي نجح حتى الآن في تحريف الأنظار وشوَّه عمليات التحرير الوطنية والقومية في انحرافات قاتلة، صدَّعت المجتمعات العربية والإسلامية، من إعادة التصويب على مجريات الصراع الحقيقي مع الغرب الاستعماري وأداته الكيان الصهيوني، في بناء منظومات سياسية مجتمعية يحكمها القانون ويكون سيّدها، والخلاص النهائي نحو علمانية الدولة ومدنيتها، وتثبيت أركان ومفاهيم جديدة تعيد اللحمة والثقة بين أبناء الشعب الواحد على قاعدة الاحتكام إلى القانون وإقامة العدالة المجتمعية، وبغير ذلك سيُعاد استخدام الدين بأبشع صوره الجهادية اللاغية للآخر على قاعدة التصفيات والنحر والسبي والغزو والغنيمة….

أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى