في ذكرى معركة ميسلون
زياد حافظ
نستذكر في هذه الأيام مع أهلنا في سورية وسائر أقطار الوطن العربي ذلك اليوم في 24 تموز/ يوليو 1920 البطل الشهيد يوسف العظمة ومعركة ميسلون. هذه المعركة غير المتكافئة مع المستعمر الفرنسي كانت مواجهة مع العدو الغربي ومتلازمة زمنياً مع ثورة العشرين في العراق مع المستعمر البريطاني. هذه المعركة وأخواتها في الوطن العربي تدلّ على أنّ روح الثورة العربية متأصّلة عند أبناء الأمة، مهما حاولت قوى الاستعمار وعملائها في الوطن العربي تزوير التاريخ أو إلغاء الموروث التاريخي والثقافي الذي نعتزّ به.
هي المعركة المنسية في تاريخنا المعاصر، علماً أنّ معناها ودلالاتها كثيرة وعزيزة. صحيح أنها لم تكن نصراً لكن دروسها ما زالت قائمة حتى الساعة، حيث أثبتت أنّ عامل قوّة الإرادة في مواجهة أيّ عدو هو شرط ضرورة وإنْ كان غير كافٍ. وصراعنا اليوم مع الاستعمار القديم الجديد، ومع العدو الصهيوني، ومع الرجعية العربية وما أفرزوه من جماعات تعصّب وغلوّ وتوحّش، هو قبل كلّ شيء صراع إرادات. موازين القوة بدأت تميل لمصلحة الحق العربي وذلك بفعل عمل دؤوب مبني على قاعدة العلم والتخطيط وإرادة صلبة. هذه الإرادة كانت موجودة في واقعة ميسلون، ولكنها لم تكن مرتكزة على قدرات وتخطيط دقيق. لكنّها عبّرت أن حتى في غياب القدرات المادية فإنّ الإرادة كافية للحفاظ على الكرامة وإنْ كان الثمن الاستشهاد. وحتى عدم التكافؤ بين القوّات العربية والقوّات المستعمرة لصالح الأخيرة لم تكن في رأي يوسف العظمة رادعاً لعدم خوض المواجهة. فكم من فئة قليلة غلبت فئة كبيرة بفعل الإيمان بالله وبالقضية! ووثائق المعركة في ميسلون أوضحت أنّ التحصينات التي أعدّها البطل الشهيد يوسف العظمة كانت صعبة الاختراق ومكلفة للقوّات الغازية فيمكن التكهّن أنّ الهزيمة لم تكن قدراً وهذا ما تثبته الوثائق الحربية الفرنسية. فقد أوفد قائد الحملة الغازية غورو مئة فارس بلباس وأعلام سورية اعتقد المدافعون أنها قوى أسناد وإنقاذ لهم فكان الغدر بهم! رغم كلّ ذلك فما يميّز معاركنا ومواجهاتنا مع أعدائنا هي أنها ليست معارك لاسترجاع حقوق مسلوبة أو الحفاظ على الوجود بمقدار ما هي معارك الحفاظ على كرامتنا. فنحن لا شيء من دون الكرامة. هذه هي القيمة الأساسية لمعركة ميسلون غير المتكافئة.
لكن هناك دلالات أخرى إذا ما أخذنا السياق العام للأحداث المحيطة بها آنذاك. ففي رأينا كانت تلك المعركة متمّمة لسلسلة مواجهات على طول الوطن العربي. لم تأت هذه المواجهة من الفراغ، فلا ننسى ثورة عمر المختار قبل عقد من معركة ميسلون ولا ننسى ثورة مصطفى كامل عام 1918 وقبل ثلاثة عقود منها ثورة أحمد عرابي، ولا ننسى ثورة المهدي في السودان في مواجهة البريطانيين، كما لا ننسى ثورة عبد الكريم الخطابي في الريف المتزامنة مع ميسلون وثورة العشرين في العراق. غير أنّ معركة ميسلون كرّست ثقافة المواجهة في بلاد الشام مع المستعمر الغربي الذي ما زال يحاول اليوم غزو هذه البلاد مرّة أخرى. كما أنّ معركة ميسلون مهّدت لثورة سلطان الأطرش وعبد الرحمن شهبندر وحسن الخرّاط وعائلة عياش الحاج وإبراهيم هنانو وفوزي القاوقجي.
معركة ميسلون كانت من أوائل معركة التحرّر العربي التي نعيش اليوم ثمارها في بلاد الشام والرافدين في دحرها جماعات التعصّب والتوحّش المدعومة والمموّلة من دول الاستعمار القديم والجديد وأتباعه في المنطقة العربية. وغداً ستأتي بمشيئة الله وسواعد المقاومين في فلسطين وأقطار الوطن العربي المعركة الفاصلة لدحر المستعمر المغتصب لفلسطين.
إنّ التلاقي الميداني القومي الإسلامي في سورية والعراق في هذه الأيام من تداعيات معركة الكرامة العربية في ميسلون، كما أنّها من تداعيات ثورة العشرين في العراق ومعارك تشرين في الجولان. ما لم يكن مسموحاً آنذاك أصبح اليوم ممكناً. الدرس الذي استخلصه الرئيس الراحل حافظ الأسد هو ضرورة التخطيط والإعداد الدقيق لدعم الإرادة. فكان نصر تشرين. وهذا ما حرص على استكماله الرئيس بشار الأسد. فالتحالفات الإقليمية والعربية والدولية إرث رسّخه الرئيس الراحل حتى وصلت إلى مستوى عالٍ استطاعت بها سورية مواجهة الحرب الكونية عليها. والإرادة الصلبة للمواجهة منذ احتلال العراق كانت قاعدة للتخطيط والإعداد مع الحلفاء الإقليميين والدوليين. فكان النصر والتلاقي الميداني مع الأخوة في العراق.
وإذا كانت معركة ميسلون مع المستعمر الفرنسي بداية معركة الكرامة العربية، فإنّ معركة المصالحة الوطنية هي مع أنفسنا وقد تكون الأصعب إلاّ أنها ضرورية لتحصين انتصارات الميدان. فالعدو الاستعماري والإمبريالي، والعدو الصهيوني، والرجعية العربية، يستغلّون الانقسامات الداخلية لتغذية الفتنة التي هي أفتك الأسلحة. وجماعات التعصّب والغلوّ والتوحّش تستفيد من حالات الإحباط الداخلي في المجتمعات العربية لاستقطاب الشباب المهمّش والفاقد أفق حياة كريمة. والمصالحات التي تجري اليوم في سورية هي خطوة أساسية في تنفيس الاحتقان وعودة اللحمة بين مكوّنات المجتمع في سورية.
معركة ميسلون في سياقها التاريخي مع المواجهات الأخرى في زمنها تؤكد أن لو كانت الجهود موحّدة من المغرب إلى المشرق لما استطاع المستعمر أن يدخل مجتمعاتنا ويحتلّ أرض العرب. ما لم يكن قائماً آنذاك أصبح ممكناً إنْ لم يكن واقعاً في بعض الساحات كالتلاقي الميداني العراقي السوري. واليوم، كما في الأمس، وغداً، فإنّ وحدة مصير هذه الأمة تعني التنسيق في المجهود في الأقطار كافة، وبخاصة في فلسطين. وهذا ما نستخلصه من درس ميسلون.
أمين عام المؤتمر القومي العربي