تبدّل المفاهيم وتحوّلها في المجتمعات المعاصرة 2
جورج كعدي
مفهوما اليسار واليمين تبدّلا معنى ودلالةً عبر العصور. كان يُنظر مثلاً إلى المدافعين عن فلسفة السوق الحرّة في القرن التاسع عشر بكونهم يساريّين، بينما يُحسبون اليوم في خانة اليمين. منذ عام 1930 قال المؤرّخ الفرنسيّ إميل شارتييه: «حين يوجّه إليّ سؤال عمّا إذا كان التمييز بين اليسار واليمين يحمل بعد أيّ دلالة أو معنى، فإنّ أوّل ما يتبادر إلى ذهني أنّ الشخص الذي يسألني ليس يساريّاً». كما ناقش المفكّر السياسيّ الإيطاليّ نوربرتو بوبيو Bobbio هذه الإشكاليّة في كتابه «اليسار واليمين» الذي لقي رواجاً كبيراً، معتبراً أنّ السياسة بطبيعتها، وبالضرورة، هي موقع خلاف، وجوهرها هو الصراع بين أفكار وسياسات متعارضة، ويأتي اليمين واليسار من طرفي الصراع، علماً أنّ ما «إلى اليسار» أو ما «إلى اليمين» يمكن أن يتبدّل. لا شيء يمكن أن يكون إلى اليسار وإلى اليمين في آن واحد. كما يرى بوبيو أنّه عندما تكون الأحزاب أو الإيديولوجيّات متوازنة تقريباً، بدرجة أو بأخرى، فإنّ قلّة تجادل في أهميّة التفرقة بين اليسار واليمين. لكن إذا أمسى أحد الطرفين قويّاً جدّاً تغدو لكلا الجانبين مواقعه الثابتة.
كان اليمين يطرح نفسه في ثوب جديد مثلما حدث بعد الحرب العالميّة الثانية إثر سقوط الفاشيّة. وكان على الأحزاب اليمينيّة لتبقى وتستمرّ أن تتبنّى بعض القيم اليساريّة. ومنذ مطلع الثمانينات من القرن الفائت أخذت الأمور منحى آخر بسبب الهيمنة الإيديولوجيّة لليبراليّة الجديدة وانهيار الشيوعيّة. فالاختلاف بين اليسار واليمين، على ما يشير بوبيو، ليس مجرّد استقطاب فحسب. أحد المعايير الرئيسيّة التي تعتمد دوماً في تمييز اليسار عن اليمين هو معيار السعي إلى المساواة، علماً أن المساواة فكرة نسبيّة وتطرح أسئلة من نوع: مساواة بين مَنْ ومَنْ؟ ومساواة في ماذا؟ وإلى أيّ حدّ؟ صحيح أنّ اليسار تميّز بالنضال ضدّ عدم المساواة، لكن هذا الهدف يمكن فهمه بأشكال مختلفة ومتعدّدة، فالمسألة ليست في أنّ اليسار يرغب في تقليص أشكال عدم المساواة كلّها فيما يريد اليمين دوماً الإبقاء عليها. الاختلاف هو حول تحديد مضمون المساواة. مثلاً يعبّر عن التناقض بين اليمين واليسار في موقف كهذا: إلى أيّ حدّ ينبغي منح المهاجرين حقوق المواطنة الأساسيّة والحماية الاجتماعيّة والاقتصاديّة؟
أدّت «العولمة» وانهيار التجربة الشيوعيّة إلى تغيير أشكال اليسار واليمين. ومع انحسار الاشتراكيّة كنظريّة في الإدارة الاقتصاديّة، اضمحلّ أحد الخطوط الرئيسيّة التي تفصل بين اليسار واليمين، وبرزت قضايا ومشاكل على الصعيد العالميّ تتجاوز برامج اليسار واليمين، مثل القضايا البيئيّة وتلك المتعلّقة بالطابع المتغيّر للعائلة والعمل والهويّة الثقافيّة، بل أضحت قيم العدالة الاجتماعيّة متّصلة بتلك القضايا. بات لدينا ما يُدعى «سياسات الحياة» التي تتعلّق بقرارات الوجود نفسه من نوع: هل ينبغي قبول الطاقة الذرّية أم لا؟ وإلى أيّ مدى يبقى العمل قيمة رئيسية للحياة؟ وهل يجب تفويض السلطة؟ وما هو مستقبل الأشكال الاتّحاديّة في العالم مثل الاتحاد الأوروبيّ؟… قضايا شائكة جداً لا يملك اليمين ولا اليسار أجوبة قاطعة وواضحة في شأنها.
خارج اليسار واليمين، شهد العالم في العقود الأخيرة ما يمكن تسميته بـ«أحزاب التحدّي» التي تشنّ غالباً هجوماً على الأحزاب التقليديّة، وأشهر أحزاب التحدّي هذه حزب الخضر الناشط جدّاً في الدول الغربيّة، فهو يطرح إشكاليّات إيديولوجيّة وبيئيّة بالتأكيد وأوّلاً يستحيل تجاهلها.
فقدت المفاهيم والمقولات السياسيّة القديمة معانيها. لا يمكن التحدّث اليوم بجديّة، مثلاً، عن تفكيك الرأسماليّة، وكان ذلك مشروع اليسار الأساسيّ، كما لا يمكن التحدّث جدّياً عن اشتراكيّة عالميّة، فالإصلاحات الصغيرة في السوق باتت الحدّ الأقصى للطموح السياسيّ، والمبدأ الأوّل في البرنامج اليساريّ الجديد هو وضع استراتيجيّة لحماية عائلات العاملين في عصر العولمة. لم يبق اليسار قادراً في زمن الرأسماليّة المعولمة على معارضة اتفاقيّات التجارة العالميّة، مثلاً لا حصراً. من دون إغفال الأزمات الحادّة المتتالية التي تشهدها هذه الرأسماليّة المعولمة، الاستبداديّة، التي تمليها المشاريع العملاقة وأسواق المال، ففي الأعوام الثلاثين المنصرمة كفّت الدولة عن التدخّل في عمل اقتصاد السوق، تاركةً قواه تصول وتجول على هواها، أي تُرك توجيه الاقتصاد الوطنيّ لحفنة تهيمن على الشركات والمصارف الكبرى، فأطلقت الرأسمالية بذلك العنان لطاقاتها الجامحة، المعظّمة للرفاه من ناحية، إنّما المدمّرة لوحدة المجتمع من ناحية ثانية، ما غيّر نمط الحياة المعاصرة على نحو متسارع… يتبع .