الدولة العلمانية في الخليج.. مزاح سمج!!
د. وفيق إبراهيم
لا شكّ في أنّ مهمّة سفراء الدول في الخارج الدفاع عن أوطانهم، إنّما في الحدود التي تحاذي العقل، وإلا يصبح العمل الدبلوماسي تحشيداً زجلياً فاقداً للمصداقية والفاعليّة والاحترام.
هذا ما حدث مع سفير دولة الإمارات في العاصمة الأميركية واشنطن، يوسف العتيبة، عندما قال إنّ المحور الذي يضمّ إلى بلاده كلاً من السعودية ومصر والبحرين، يختلف مع قطر… على مستقبل «الشرق الأوسط» والدولة العلمانية، مضيفاً أنّه صراع ذو طابع فلسفي.
ورد هذا الكلام حرفياً في برنامج تلفزيوني أميركي، لم يؤدِّ إلى إثارة غضب مقدّمه أو ضيوفه، لكنّهم رفعوا حواجبهم دهشة لهذه القدرة على التوغّل في «الخيال»، لأنّهم يعرفون أنّ ثلاث دول على الأقلّ من هذا المحور الرباعي للأزمة الخليجية تعتقل حركة التاريخ عند حدود القرون الوسطى وتمنع انطلاقته. أمّا العضو الرابع في «المحور الفلسفي»، فيشهد منذ ثمانينيات القرن الماضي تدهوراً مريعاً نحو القرون الوسطى، وكان أكثر حداثة في عصره الفرعوني قبل آلاف عدّة من الأعوام.
كيف يسمح العتيبة لنفسه إذاً استعمال مصطلحات متناقضة مع الأوضاع في «دنيا العرب» بشكل كامل؟
يبدو في المنطلق أنّ هذا البرنامج التلفزيوني يندرج في إطار «التحشيد الإعلامي» لمصلحة محور الإمارات. وهو مدفوع الأجر كحال معظم الحلقات المخصصة لبلدان العالم الثالث، وخصوصاً العربية والإسلامية منها. لذلك، فإنّ مشاهديه من بين الأميركيين هم قلّة قليلة، قادهم المحوّل الآلي إلى الحلقة بعشوائية، فسارعوا إلى استبدالها بفكاهات هزليّة بعد أن استمعوا إلى ما ورد فيها.
وللتوضيح، تجب قراءة الأشكال السياسية مع العمل على مقارنتها حتى بأشكال الدول القديمة والحديثة، وبذلك يتبيّن الخيط الأبيض.. من خطوط الخرافات.
لقد أنشأت السياسة البريطانية دول الخليج بكاملها وفق إجماع المؤرّخين المعاصرين في النصف الأول من القرن العشرين، استجابة لحاجة «بريطانيا العظمى» آنذاك، للجمع بين الإمساك بالنفط وخطوطه الاستراتيجية، وهذا ما عكسه رئيس وزراء انكلترا السابق ونستون تشرشل، الذي قال بعد انتصار قواته على جيش رومل الألماني في حرب العلمين: «انتصرنا على بحر من «الزيت»، أيّ النفط، من صحراء مصر وليبيا إلى قلب جزيرة العرب».
لقد أقطع البريطانيون «عائلات قبلية» حكماً وراثياً في دويلات الخليج، قامت على مفهوم قديم يعتبر أنّ أراضي المملكة أو الإمارة هي ملك حصريّ لهذه العائلات، توزّعها حسب مصالحها السياسية. أمّا السكان فهم رعايا يبايعون الملك أو الأمير على «السمع والطاعة»، ومن دون الحق بإبداء أيّ اعتراض، لأنّ للحاكم الحق بإعدامه استناداً إلى مفهوم «البيعة»، وله أيضاً حق الاستئثار بالمال العام الذي هو مال السلطان يوزّعه حسب مصالحه، أو يمنعه عن الناس وفق مزاجه.
ولم تتطوّر هذه المفاهيم قيد أنملة، ولا تزال نظاماً معمولاً به وبإشراف غربي منذ أكثر من نصف قرن… هناك اعتقال للتفاعلات السياسية. فالحاكم هو الذي يعيّن ويقيل من دون أدنى مساءَلة، ولا وجود لحزب أو نقابة أو أيّ شكل من أشكال المعارضة، ما يوحي بوجود «سُبات» شعبي عميق سببه استخدام الدين في إضفاء «طابع قدريّ» على حركة الناس، وتوزيع رواتب ومكرمات بالحدّ الأدنى، وتحشيد إعلامي يقوم على التخويف من الآخر، وأجهزة قمع داخلية تبيد كلّ أشكال «التمنّع» مهما كان ضئيلاً، بمؤازرة من أجهزة الاستخبارات الغربية الساهرة على استقرار هذه الأنظمة.
هذا ما أدّى إلى إنتاج أنظمة قرون أوسطية يسير فيها الزمن برتابة مروّعة، ولا علاقة للمبايع بكلّ أشكال السياسة والاقتصاد، فهما ملك للسلطان وأعوانه. وينتقل الحكم بعد وفاته إلى ابنه أو أخيه اللذين يطبّقان سياسة السلف، وربما الخلف قبل أن يولد!!
إنّ مقارنة هذه النماذج مع الحكم الإسلامي «الراشدي» ظالم، لأنّ الحكّام في الخلافة الراشدية هم من نظام شورى كان يحتوي على قادة الرأي والجماعة، ولم يكن الخليفة يتّخذ قراراً إلا بعد المشورة.. ولم يكن يورّث ابنه. فخلف أبا بكر كان عمر، الذي انتقل الحكم منه إلى «عثمان» ومن بعده إلى «عليّ». وهؤلاء كانوا ينتمون إلى أجنحة عائلية مختلفة ومتقاتلة حيناً.
فإذا كانت المقارنة لا تجوز مع المفاهيم الحديثة للدول، وخصوصاً الدولة العلمانية التي قامت على أساس إقصاء المفاهيم الملكية والعائلية والدينية عن الحكم، فحتى الزواج لكي يصبح رسمياً معترفاً به في فرنسا، يجب أن لا يُعقد إلا في دار أقرب بلدية، ولا تمنع الدولة العريسين من عقده في مركز ديني، لكنّها لا تعترف إلا بالزواج في «البلديات». المهم أنّ هناك إقصاءً لأحكام الدين عن التفاعلات الرسمية على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
هناك ملاحظة إضافية تتعلّق بالملكيات الأوروبيّة، فهذه فقدت دكتاتوريّتها بثورات شعبية وأصبحت دستورية الطابع تملك ولا تحكم. لذاك، فإنّ التناقض العميق بين الدولة الحديثة وبين الدول الخليجية الدكتاتوريّة والمستبدّة والقرون أوسطية، التي تطوِّع الدين خدمة لاستمرارها، إنّما هو تناقض عميق لا تمكن إزالته إلا بإحداث أنظمة حكم تساوي بين الناس في السياسة والاقتصاد والاجتماع، وتحرّر التفاعلات السياسية من قيود القرون الوسطى. وهذا لا يحدث إلا بثورات أساسية أو باللجوء إلى الانتخابات بعد وقت على إلغاء القيود القبلية والاقتصادية، وإعادة الدين إلى أهدافه الحقيقية وإبعاد سلطة المخابرات الخارجية والداخلية… وهذا مستحيل.
ماذا إذن عن العمل من أجل مستقبل «الشرق الأوسط» كما قال السفير العتيبة؟
إنّ من يقتفي أثر السياسات السعودية والإماراتيّة والبحرينيّة والمصرية في «الشرق الأوسط»، يُصاب بالهلع. أما مَن يتابع نشر السعودية لمئات المراكز الدينية في أوروبا بكلفة زادت عن 89 مليار دولار، كما قالت المستشارة الألمانية ميركل، فيُصاب بإغماءة قد تودي به.
دولة الإمارات أسهمت باعتراف غربيّ بدعم الإرهاب في سورية والعراق، وركّزت على ليبيا وتونس، لكنّها لم تتمكّن من بناء نفوذ عميق لها هناك، فاستدارت نحو اليمن، وسيطرت على جزره السياحية في سقطرى وخليج مدينة عدن الاستراتيجي، وتعمل على تقسيمه إلى أربع دول: اثنتان في الجنوب والباقي في الشمال. وكذلك السعودية التي أنفقت عشرات مليارات الدولارات لتدمير سورية والعراق واليمن، ونشرت القراءة التكفيرية للإسلام في العالم بمئات المليارات. ولدعم حلفائها آل خليفة في البحرين، استجلبت لهم قاعدة أميركية وأخرى بريطانية ودركاً أردنياً وقوات مجلس التعاون الخليجي وقوّات سعودية. كلّ هذا الحشد العسكري من أجل حماية 500 كيلو متر مربع تشكّل مساحة الجزيرة البحرينية الأساسية، ونظام الحكم الملكي الوراثي الأوتوقراطي الذي يسوس الناس بالرصاص والسوط.
تشير هذه المعطيات إلى دور إرهابي تمارسه دول المحور الرباعي في «الشرق الأوسط»، فتستعمل المكرمات والرشى لشراء الأنظمة، وتعمّم الأفكار الإرهابية وتخدم السياسات الاستعمارية الأميركية، وتعتقل شعوبها فتمنعها من العلم الصحيح، وتجهض كلّ محاولة لإنتاج دول متقدّمة. فالنفط لم يعد طويل العمر، ألا تعرفون أنّ العالم بدأ ينتقل إلى عصر الغاز!! فكيف تحافظون على أهمياتكم السياسية بعد أقل من عقدين من الزمن المقبل؟
لذلك، فإنّ ما يسمّيه السفير العتيبة بالخلاف الفلسفي مع قطر، ليس أكثر من صراع على استدرار العطف الأميركي واحتكاره في إطار الإيمان بفلسفة تدمير «الشرق الأوسط»، والحيلولة دون تورّطه عبر نشر قراءات في فنون الاحتكار الأميركي للعالم الإسلامي بواسطة إمارات الظلام وممالك الفتن.