الانتصاران ودلالاتهما
زياد حافظ
تحتفل الأمة العربية هذه الأيام بنصرين متلازمين: النصر الأول في مدينة القدس حيث أوقع الشعب الفلسطيني هزيمة سياسية مدوية بحكومة الكيان وأجبرها على التراجع عن الإجراءات غير القانونية وغير الأخلاقية بحق المقدسيين ومجموع الفلسطينيين والمصلّين في جامع الأقصى. أما النصر الثاني فهو دحر فلول جبهة النصرة في السلسلة الشرقية وجرود عرسال بسبب جهود المقاومة الإسلامية والجيش اللبناني.
النصران يندرجان في سياق تحوّلات إقليمية ودولية ظهرت في التطوّرات الميدانية في كلّ من سورية والعراق. وفي إخفاقات بلاد الحرمين في اليمن والتصدّع داخل مجلس التعاون الخليجي، وفي تراجع قدرات الولايات المتحدة عن رسم وتنفيذ سياسات تضمن هيمنتها في الإقليم وفي العالم وصعود محور مناهض لها. كما أنّ الانتصارين يعكسان زيادة الوعي الشعبي العربي بيقين التحوّلات وقدراته على التفاعل معها لمصلحة الحق العربي.
لذلك فإنّ هذين الانتصارين لهما دلالات عدّة. الدلالة الأولى هي أنّ النصر أتى بفعل تراكمي لكلّ من الشعب في فلسطين في ما يتعلّق بمقاومة الاحتلال للقدس وللمسجد الأقصى، وفي لبنان بفعل تضافر جهود المقاومة اللبنانية والجيش اللبناني في التصدّي لجماعات التعصّب والتوحّش والغلوّ التي كانت تهدّد السلم الأهلي وتهدّد المقاومة. وتضافر جهود المقاومة والجيش اللبناني أكّد صحّة المعادلة الذهبية التي حكمت لأكثر من عقدين المواجهة مع العدو الصهيوني، أيّ الشعب والجيش والمقاومة رغم محاولات بعض القوى اللبنانية من التنصّل منها. كما أنّ توافق أكثرية اللبنانيين والالتفاف حول الجيش اللبناني كان أقوى من محاولات بعض القوى للنيل من الجيش ومن المقاومة.
الدلالة الثانية هي صحّة جدوى خيار المقاومة في مواجهة الكيان الصهيوني. اعتقدت حكومة العدو أنّها تستطيع العربدة بحرم الأقصى بسبب التواطؤ الرسمي لبعض الدول العربية المهرولة للتطبيع من دون أيّ مقابل. كما أنّ حكومة الكيان توهّمت أنّ الانقسام الفلسطيني والتنسيق الأمني مع السلطة الفلسطينية يسمحان لها بالتمادي في موضوع الأقصى، غير أنّ الشعب الفلسطيني، وفي مقدمّته أهل القدس، في المرصاد ومصمّم على التصدّي لممارسات الكيان وبالتالي للمواجهة. فهناك انتفاضة تعمّ فلسطين المحتلّة، رغم محاولات الاستخفاف بها وتسميتها بـ «هبّة» محمودة، ولكنها غير ذات جدوى. فالشعب الفلسطيني ابتكر وسائل جديدة للتصدّي منذ أكثر من ثلاثين سنة. فمن انتفاضة الحجارة إلى استشهاد الجبّارين الثلاثة سلسلة إبداعات في المواجهة سواء بالسكاكين أو بالدهس أو بالمواجهة المدروسة التي خطّط لها الشهيد البطل باسل الأعرج، إلى المظاهرات الصاخبة ليلاً ونهاراً في شوارع القدس، فكلّ ذلك أدّى إلى استنهاض جماهير غفيرة في فلسطين وفي الوطن العربي. فتظاهرات أهل اليمن تحت القصف، والتظاهرات في شوارع عمّان والأردن، والحراك الشعبي في تونس، والوقفات التضامنية في لبنان على مدار الأحداث، فكلّ ذلك شكّل قوّة ضاغطة أربكت الحكومات المطبّعة والمهرولة للتطبيع.
من جهة أخرى هذه السلسلة من الإبداعات للشعب الفلسطيني التي ينجزها على الأرض أفراد توحي بأنّ مجمل هذه العمليات فردية ظاهرياً، بل هي في الحقيقة منتوج لعقل جماعي يختلف بالشكل والمضمون عن التخطيط التقليدي. ما استطاعت هذه الجماهير تحقيقه في القدس يدلّ على أنه أكثر من ظاهرة عفوية بل خطة مدروسة لا يستطيع العدو والعملاء من تحديد ملامحها إلاّ ربما بعد إنجازها. مرّة أخرى يتبيّن أنّ العدو الصهيوني أوهن مما تعتقد النخب العربية، بل هو أوهن من بيت العنكبوت مقابل العقل والتصميم والإيمان العربي.
الدلالة الثالثة هي أنّ المشاريع كافة التي تُحاك لإنهاء القضية الفلسطينية وهمية ولا ترتكز إلى أيّ أرضية موضوعية. فلا يكفي أن تلتقي حكومات عربية مع الإدارة الأميركية وحكومة الكيان الصهيوني لفرض معادلات لا يريدها لا الشعب الفلسطيني ولا الجماهير العربية. فكلّ مشروع يتمّ صوغه في الأروقة الدولية وبعض العواصم العربية يصطدم برفض الشعب الفلسطيني وصموده وتصدّيه للاحتلال بالوسائل المتاحة كافة. وهنا يكمن مأزق الكيان. فمن جهة جاءت نتائج إجراءاته معاكسة لتوقّعاته فهو تجاوز خطاً أحمر رسمه شعب فلسطين وأهل بيت المقدس. فلا يستطيع أن يظهر بموقف المتراجع، فكان استقباله الاستعراضي لطاقم سفارة الكيان في عمان مستفزّاً للشعب في الأردن ما أدّى إلى تأزّم العلاقة مع حكومة عمّان فشكّل نكسة إضافية. ومن جهة أخرى لا خيار له إلاّ إما التراجع المهين أو الهروب إلى الأمام، أيّ أقصى اليمين وطريقه المسدود.
فالهروب إلى أقصى اليمين لنتنياهو دلالة عن ضعف بنيوي وحالة إنكار للمتغيّرات والوهم أنّ تحالفه مع بعض الدول العربية هو الردّ الفعّال على جهود المقاومة الشعبية في فلسطين وفي الدول العربية. والهروب إلى أقصى اليمين له ثمن سياسي باهظ، حيث يخسر بوتيرة عالية ما تبقّى له من تأييد وتعاطف دولي مع الكيان. هناك دراسات واستطلاعات عديدة تشير إلى التراجع الدرامي في التأييد الدولي كالتصويت الأممي في منظمة اليونسكو على عدم اعتراف بأيّ حق للكيان في مدينة الخليل، وتراجع التأييد للكيان في استطلاعات الرأي العام الأميركي بين الشباب اليهودي الأميركي. وربما تمسّك نتنياهو بالسلطة مهما كلّف الأمر يعود إلى خطر إدانته بالفساد في صفقات مالية تعود إلى شراء غوّاصات من المانيا. فالفساد ينخر الجسم الصهيوني ما يُسرّع في هبوطه وانكساره الاستراتيجي.
الدلالة الرابعة هي تلازم الانتصارين بالإنجازات للجيش العربي السوري وحلفائه في سورية والتلاقي الميداني العربي والإسلامي في سورية والعراق في دحر جماعات التعصّب والغلوّ والتوحّش. فالحرب الكونية على سورية والدعم الذي قُدّم لجماعات التعصّب والغلوّ والتوحّش كان لمعاقبة سورية كدولة وشعب وحكومة وقيادة على دعمها خيار المقاومة. فكلّ الإنجازات للجيش العربي السوري وحلفائه تصبّ في خانة تثبيت خيار المقاومة.
الدلالة الخامسة هي في مشاهدة العلم الفلسطيني في القدس وفي المسجد الأقصى، وما يعنيه من إلغاء موضوعي لادّعاءات العدو بأنّ القدس موحّدة وعاصمة أبدية للكيان الصهيوني. وإذا كان إسقاط الهدف الصهيوني في توحيد وتهويد القدس هزيمة صهيونية، فإنّ تراجع حكومة الكيان بسبب التحرّك الشعبي يعني أنّ القوة السياسية للكيان في حال تراجع استراتيجي. وهذا ما لا تستطيع تحمّله حكومة الكيان. لذلك فإنّ منسوب ارتكاب الحماقات القاتلة يتزايد يوماً بعد يوم.
والدلالة السابعة هي أنّ الانتصارين هما نتيجة تضافر القوى الوطنية والقومية والإسلامية في تكريس البوصلة الحقيقية للعمل السياسي، وعدم الوقوع في فخّ الصراعات الجانبية أو التجاذبات الطائفية أو المذهبية. فلا تناقض بين القوى طالما فلسطين هي قبلة الحراك الشعبي على أن يترجم بواقع سياسي يعكس الواقع الميداني.
لذلك فإنّ الانتصارين لن يكتملا إلاّ بتوحيد الموقف المقاوم على الساحة الفلسطينية وبالمصالحة الوطنية في كلّ من سورية والعراق. فالفتنة أشدّ من القتل ولا بدّ من القضاء عليها وعلى من يغذّيها. فعلى الصعيد الفلسطيني فإنّ السلطة والفصائل مدعوّون للالتحاق بالشعب الفلسطيني وليس العكس. فالشعب هو فعلاً المعلّم كما هو الضمانة. فهل تعتبر النخب الحاكمة؟
أمين عام المؤتمر القومي العربي