الصناعة الموسيقية بين الأصالة والحداثة
الموسيقي والباحث نُهَيل سلّوم
طرأت تطوّرات كبيرة على الموسيقى في بدايات القرن العشرين عبر موجة الثورة التكنولوجية وثورة الاتصالات والإنترنت، إضافة إلى ظهور أجهزة تكنولوجية حديثة سهّلت المهمّات الفنية والأدائية، وأصبحت عصب الحياة الذي لا يمكن الاستغناء عنه.
إنّ هذا التطوّر التكنولوجي الهائل والسريع غزا الموسيقى وأصبح متجلّياً في أدقّ تفاصيلها، حيث أصبحت الموسيقى تصنع وتنفّذ وتنشر بشكلٍ سريع من خلال المحطّات الإذاعية والتلفزيونية والفضائية، ومن خلال ما تضمّه شبكة الإنترنت من آلاف المواقع الإلكترونية. كما لعب الحاسوب دوراً كبيراً في ذلك، كونه يعتبر من أهم إبداعات التكنولوجيا الحديثة.
وبالربط بين التكنولوجيا والموسيقى، نجد عدداً من البرامج الموسيقية المتطوّرة التي تتحكم في نوعية الأصوات وتغييرها وتحسينها. كما نجد تطوّراً كبيراً في برامج التدوين الموسيقي أيضاً.
ظهرت تغيّرات كبيرة في الموسيقى العربية نتيجة تأثّرها بالموسيقى الغربية من جهة، وبالتطوّرات التكنولوجية الحديثة من جهةٍ أخرى، حيث لقيت قبولاً عند البعض دون آخرين. فهل خدمت هذه التغيرات الموسيقى العربية؟ أم ساعدت في انحطاطها وهدمها؟
تميّزت الموسيقى العربية بغناها وتنوّعها، وحملت في طيّاتها الصنعة والعفوية والطرب والارتجال، وهناك عدّة عوامل جعلت ثقافتنا الموسيقية العربية فريدة عند الآخر، منها استخدام آلات خاصّة بتراثنا العود والقانون والناي والبزق والرق والطبلة والمزهر والمزمار وغيرها ، وإعطاء الصوت البشري في الموسيقى العربية دوراً رئيساً في التعبير الموسيقي، واستخدام المقامات واختلاف طوابعها وأبعادها والإيقاعات المتنوّعة بضروبها المركّبة والعرجاء والمتداخلة، واستخدام الأشكال والقوالب الموسيقية العربية في التأليف الآلي والغنائي كالموشح والدور والقصيدة والطقطوقة والموال والسماعي والبشرف واللونغا والتحميلة… إلخ .
أمّا بالنسبة إلى الموسيقى العربية المعاصرة، فقد ابتعدت كل البعد عما ألفناه وسمعناه من أصالة الموسيقى العربية.
شهدت الأغنية العربية المعاصرة تراجعاً واضحاً على جميع المستويات، فباتت الأغاني تشبه بعضها، لأنّها تتمسّك بقوالب سهلة التأليف والتلحين، وإيقاعاتها ذات طابع تكراري راقص لا يعرف إلّا القليل من التبدّلات، ولا تأخذ بعين الاعتبار الشعر وصوره ومضمونه، ولا اللحن الجميل ولا الصوت العذب، إضافةً إلى أنّ هذه الأغاني لا تكتب باللغة العربية بل بلهجات فقيرة التعبير وموضوعاتها متشابهة عن الحبّ والغرام. لهذا نرى أنّ الأغنية العربية فقدت الكثير من الخصائص كالطرب والقفلات والسلطنة والسماع وغناء القوالب التراثية وأداء المواويل والارتجال.
ونرى أيضاً غياباً واضحاً لاستخدام الآلات التقليدية لحساب الآلات الإلكترونية كآلة «الأورغ» التي أدخلت عليها تحسينات جعلت مجساتها ملائمة للموسيقى العربية بمقاماتها ذات ربع الصوت، وصار العازف بكبس أزرار معيّنة، يُعزف اللحن بأصوات آلات مختلفة كالعود والقانون وغيرها من الآلات، مع اختيار الإيقاع المناسب للّحن بكبس أزرار أخرى. بدأ «الأورغ» مشاركاً في أداء جمل موسيقية معينة ثمّ غدا سيّد الموقف، وصار اليوم الآلة الرئيسة التي لا تستغني عنها الفِرق الحديثة. ومن هنا نرى أثر «الأورغ» في الأغنية العربية في أنّه يرافق المؤدّي نغماً وإيقاعاً مع الحرص على التوزيع الموسيقي، وهو المعتمد في أغاني الفيديو كليب، ويبدو أن الأذن العربية استساغت ما يصدر عنه من نغمات، غير أنّ المتعلقين بالآلات التقليدية يجدون فيها آلة صمّاء خالية من أيّ إحساس وغير قادرة على التعبير الوجداني.
الأغنية العربية اليوم يؤدّيها مئات الشباب والشابات، وذلك من خلال وسائل الإعلام الإلكترونية التي أتاحت الفرصة لأيّ شخص في أن يصبح طائراً مغرّداً في سماء الطرب. فكثر اللجوء إلى الوسائل التقنية الموسيقية الحديثة من ميكروفون وهندسة صوتية وبرامج الحاسوب التي تصحّح الأصوات، وتجمّلها وتلمّعها وتمحو النشاز الموجود في الأداء. أي أنّ البرنامج هو الذي يغنّي لا المطرب، وبذلك يتم الاستغناء عن معرفة أصول الغناء وطرائقه وأدائه المتقن. كما أن انتشار «السانتيسايزر» Synthesizer المحفّظ أصواتًا موسيقية وإيقاعات من أنماط موسيقية متعدّدة ومختلفة، والذي يختزل الأداء والأصوات الطبيعية، سمح للملحّن والموزّع والعازف دمج أصوات الآلات والإيقاعات. هذا هو النمط الذي فرضته العولمة الغربية على ما يسمى بـ«أنصاف المواهب» من المقلّدين والمدّعين في العالم العربي، فالهدف الأساس ليس الترويج للفنّ، بل لنشر ثقافة الصورة التي هي أسرع انتشاراً وأكثر تعبيراً.
نحن اليوم في عصر الأغنية المصّورة، وأغنية «يوتيوب»، عصر التجارة الذي لا يتقيّد بالعُرف الأخلاقي، فكثرت فيه المناظر الخليعة والكلمات السوقية وتقدم فيه الرقص على الغناء، وما دعم هذا الاتجاه التجاري في إنتاج الأغاني الهابطة هو اختراع الـ«C.D» المرئي وأجهزته العارضة المتصلة بالتلفاز أو بالحاسوب، وجميع وسائل الإعلام الإلكترونية، وبهذا نزلت الأغنية العربية من برجها العاجي واختزنت في الأرشيف لوقت الحاجة إلى عرضها في قنوات مخصّصة، وارتفعت أغنية الحداثة لتحقّق الشهرة لبعض المؤدّين والمؤدّيات، ولتكون مورداً تجارياً للشركات المنتجة، وانصرف الناس عن الاستماع إلى المشاهدة العرضية وباتت الأغنية العربية تحرّك الأقدام والأيدي الملوّحة ولا تحرك الوجدان في شيء.
هناك عوامل عدّة ساهمت في تغيير معايير تقييم الأغنية العربية ومنها: ظاهرة «الفيديو كليب» التي ركّزت على المظهر الخارجي للمغنّي لا على جمال صوته وحُسن أدائه، فبات الرقص والإغواء شعاراً لمعظم المغنّين والمغنيات.
الانتشار الواسع للفضائيات والمحطّات التلفزيونية وسهولة استخدام وسائل الإعلام الإلكترونية روّجت لمغنّين ومغنّيات امتهنوا الغناء لغير الأهداف الفنية، وبات «الفيديو كليب» الخبز اليومي لمحطّات وفضائيات كثيرة، والاستغناء عنه أصبح مستحيلاً.
هيمنة شركات التسجيل والإنتاج والتوزيع وإغراق السوق بمئات الأغاني الهابطة وإبرام صفقات الحفلات الخاصة والعامة، فرض الأنواع الموسيقية التي تدرّ الأرباح محوّلةً الفن الموسيقي إلى تجارة مربحة وسلعة صناعية مفضّلةً بذلك الكمية على النوعية.
لم تساهم هذه النوعيات بالطبع في الارتقاء الموسيقي على أيّ نحو، لكن مقابل هذه النقائص نجد بعض المميّزات وإن كانت غير موسيقية ومنها:
ـ التمويل الجيد.
ـ استخدام تقنيات حديثة.
ـ التسويق الدعاية المنتظمة .
ظهور شركات كبرى في الإنتاج الموسيقي أعطت طابعاً جديداً للصناعة الموسيقية مقسّمةً إياها إلى مجالات أساسية منفصلة هي:
ـ قطاع صناعة الموسيقى الحية.
ـ قطاع الموسيقى المسجّلة.
ـ إدارة التسويق.
ـ النشر الموسيقي
ـ الترويج.
ـ العلاقات العامة.
ومن خلال هذه المجالات أصبح هناك الكثير من الأدوار الوظيفية المختلفة ضمن هذه الشركات.
تتعرّض الموسيقى العربية اليوم إلى حالة من الضياع والتأرجح ما بين الموسيقى العربية الأصيلة والموسيقى «الدارجة»، ويتجلّى ذلك من خلال الاندفاع الأعمى لدى البعض إلى اتّباع الموجة العالمية في تبنّي الأساليب الغربية من جهة واعتماد الرخيص من الأداء والتأليف والتلحين والتوزيع من جهةٍ أخرى. بينما لجأ آخرون إلى إعادة إحياء التراث بأشكال جديدة محافِظَةً بذلك على أصالة هذه الموسيقى.
يتحمّل المتخصّصون في مجال الموسيقى مسؤولية كبيرة بالنسبة إلى حُسن استخدام التقدّم التكنولوجي وتطويعه حتى يواكب الحداثة، محافظاً بذلك على القيم الفنية والجمالية، فلا بدّ من وجود نقد موسيقيّ علميّ يذكّرنا بالأسس الفنية والموسيقية والثقافية والحضارية، ويساهم في تثقيف المتلقّين وتوجيه أذواقهم الموسيقية، لأنّ معظم النقد الموسيقي الحالي يُكتب ويُقال من باب المديح أو التجريح بعيداً عن المعايير العلمية والفنية والموضوعية. وعلى أجهزة الإعلام أن تلعب دوراً رائداً في فرض الرقابة على المنتج الفني بغية إنتاج أعمال موسيقية جيدة، كما يترتب على جميع المؤسسات الثقافية من مدارس ومعاهد وجامعات أن تساهم في نشر الثقافة الموسيقية الأصيلة من خلال طرح برامج تثقيفية وعقد مؤتمرات، وإحياء التراث ضمن مناهج علمية تدرّس للأجيال الصاعدة لتنشره بكل فخر واعتزاز لأكبر عدد ممكن من الناس محلياً وعالمياً.
أخيراً إنّ قضية التأثير والتأثّر يجب ألّا تكون بالضرورة الاتّباع وفقدان الهوية والتقليد الأعمى. إنّما هي علاقة تبادل وتطوير، لأن العولمة لا تعني فقط جعل العالميّ محلياً، بل تعني أيضاً جعل المحليّ عالمياً. ومن هنا يتحتم علينا الحفاظ على شخصيتنا العربية الموسيقية، فلو رفض الأوروبيون العولمة أيّام كان العرب سبّاقين في العلوم الموسيقية لما وصلت أوروبا إلى ما وصلت إليه اليوم.