هل تكون «عين العرب» معركة مفصلية تحدّد جدية التحالف في محاربة «داعش»؟
ميشيل حنا الحاج
بعد قرابة الشهرين من قيام التحالف ضدّ «داعش» بشكل خاص، والإرهاب بشكل عام، والذي ضمّ أكثر من خمسين دولة بينهم ثلاث من الدول الخمس الكبرى، وتنفيذ ذاك التحالف الذي فاق التحالف ضدّ «العراق» في عام 1990، بالعديد من عمليات القصف الجوي على مواقع «داعش» وآلياتها، ظلت تلك المنظمة المرفوضة من المجتمع الدولي تحتفظ بزخم قوتها الى درجة احتلت معها ستين قرية كردية في الشمال السوري، وباتت معها تهدّد باحتلال مدينة أخرى رئيسية في سورية، هي مدينة «عين العرب» كوباني ، بعد أن احتلت منذ أشهر قليلة مدينتين رئيسيتين في العراق هما الموصل وتكريت، ومواقع أخرى في صحراء الأنبار.
ويصعب على المراقب أن يتفهّم عجز قوات التحالف، رغم ضخامتها، عن تحجيم قوات «داعش» التي لا يزيد عددها عن الثلاثين ألف مقاتل في أقصى حدّ، بل وعن استيعاب قدرتها على تهديد مدن أخرى كعين العرب، في وقت توقّع فيه البعض بعد تلك السلسلة من الغارات الجوية، أن تنكمش قوّتها ولو نسبياً، واذ بها تنتقل من الدفاع الى الهجوم، بل وإلى محاصرة مدينة كبرى تضمّ عادة أربع400 ألف من السكان، متيحة الفرصة لتركيا للتهديد بالتدخل براً بذريعة الدفاع عن كوباني، وهي في حقيقة الأمر تتخذها مبرّراً لإيجاد منطقة عازلة على الأراضي السورية، وهو ما تشترطه تركيا للدخول في التحالف ، تحدّ من قدرة القوات الجوية السورية على التحليق في فضائها، وهو ما تريده تركيا وتسعى اليه من وراء المنطقة العازلة، مما يعزز قدرات المعارضة المسلحة المعتدلة! بشكل عام، وقدرات «داعش» بشكل خاص.
ويتوقع المراقب من دول التحالف إنْ كانت جادة حقا في محاربة تنظيم «الدولة الاسلامية»، أن تبذل الجهد الأكبر للحيلولة دون سيطرتها على تلك المدينة التي تقول الأنباء إنّ مقاتلي «الدولة الاسلامية» قد باتوا على بعد كيلومتر واحد منها، بحيث باتت قذائفهم تطال بعض الأحياء في داخلها أو في أطرافها على الأقلّ. وذكرت آخر الأنباء أنّ «داعش» قد سيطرت على جزء من هضبة «مشتى نور»، وهي هضبة مطلة على مدينة «كوباني».
وهكذا بات من الضروري أن تتحوّل المعركة الخاصة بمن يسيطر على كوباني، الى معركة مفصلية تحدّ من تقدم «داعش» للسيطرة على منطقة أخرى تضاف الى المناطق التي تسيطر عليها فعلاً سواء في سورية أو في العراق. فجدية التحالف في الحيلولة بين «داعش» وبين تحقيق مرامها، انما يعزز بعض الثقة في التحالف، ويكشف عن نوايا جدية ضدّ تلك المنظمة الإرهابية.
أما أن يترك الأمر لقوات «داعش» للنجاح في السيطرة على المدينة المذكورة، أو للسماح لتركيا بالتدخل على الأراضي السورية بذريعة مساعدة أكراد المدينة، رغم معارضة سورية لتدخل قوات برية تركية في أراضيها، انما يكشف عن نوايا غير سليمة، خصوصاً وقد كشف الغرب أخيراً على لسان نائب الرئيس الأميركي جوزيف بايدن، أنّ دولاً حليفة ومنها تركيا، وبعض هذه الدول بات عضواً في التحالف الحالي ، قد ساهمت في تمويل الإرهاب وخصوصا في تمويل «داعش» وتسليحه. وكان بايدن يشير الى حلفائه من دول الخليج من دون أن يذكر اسمها، مع أنه قد ذكر اسم تركيا بشكل واضح ومباشر.
وكان بايدن يلقي ضوءاً على تصريح سابق للرئيس أوباما، قال فيه غنّ رجال مال وأعمال وليس دولاً هم الذين يموّلون «داعش» والمنظمات الإرهابية. فجاء تصريح بايدن مفسّراً وموضحاً لما تردّد الرئيس اوباما في تفصيله. مع احتمال هامّ، بأن يكون ذلك الاتهام، سواء الصادر عن أوباما أو عن نائبه، انما يحاول إبعاد الشكوك عن اتهامات البعض لواشنطن بكونها الراعي الحقيقي للإرهاب.
وقدر البعض أن تصريات جوزيف بايدن، ربما كانت مجرّد زلة لسان، خصوصاً أن بايدن معروف بزلات لسان كثيرة ويجري التندّر حولها أحياناً. ولكن الدكتور سمير صالحة، أستاذ القانون الدولي في الجامعات التركية، نفى احتمال زلة اللسان، لكون بايدن قد أدلى بتصريحه ذاك في جامعة «هارفرد»، عندما كان يخاطب ندوة لطلاب القانون الدولي في تلك الجامعة الشهيرة بكونها الجامعة التي تخرّج من أروقتها معظم رؤساء الجمهورية في الولايات المتحدة. ويعزز الدكتور صالحة رؤيته تلك، بكون نائب الرئيس أي بايدن، كان قد خاطب أردوغان في الصباح هاتفياً، ليهنئه على قرار المجلس النيابي التركي بالسماح للقوات التركية بالتدخل براً في سورية. فجاء تصريحه ذاك، بعد ساعات فقط من مكالمته الهاتفية مع أردوغان، ليشكك بصلابة العلاقة التركية ـ الأميركية، وتعبيراً عن المخاوف الأميركية من حقيقة النوايا التركية غير البريئة تجاه سورية، والتي ربما باتت الآن متعارضة مع توجهات أميركا الحالية، خصوصاً وقد هدّد الزعيم الكردي عبد الله أوجلان من سجنه، بعودة التمرّد الكردي ضدّ الأتراك، وهو التمرّد الذي استمرّ ثلاثين عاماً، اذا ما سقطت كوباني بأيدي «داعش»، مع ما يحمله سقوطها من احتمال لمذبحة ضدّ أكراد سورية، وخصوصاً سكان كوباني من الأكراد.
وألقى الدكتور خالد صفوري المقيم في أميركا، والمستشار في مركز أبحاث «مريديان» للدراسات الاستراتيجية، بعض الضوء على نوعية هذه الخلافات بين الدولتين، بالقول إنّ الولايات المتحدة لم ترغب قط في إسقاط نظام الرئيس بشار الأسد، بل رغبت فحسب في إضعافه، وذلك خلافاً للرغبة التركية ورغبة بعض دول الخليج التي موّلت الحرب وسلّحتها، بغية إسقاط النظام السوري. ويعتقد البعض أنّ النوايا الأميركية كانت تتجه أيضاً الى مشاغلة ذاك النظام ومشاغلة دول النفط في آن واحد، في حرب طويلة لا نهاية لها، تنفيذاً لرؤية هنري كيسينجر بوجوب استرداد الفائض من أموال النفط الناتج عن الارتفاع الفاحش في أسعاره، منذ فرض الحظر على تصدير النفط لبعض الدول الذي تبناه الملك السعودي الراحل فيصل في عام 1973.
فهذا المخطط يحقق عدة أهداف منها: 1 استرداد فائض أموال النفط، 2 اضعاف نظام الرئيس السوري عبر مشاغلته بتلك الحرب، 3 تحقيق الأمان لـ«إسرائيل» ربيبة أميركا نتيجة انشغال السوريين ودول النفط بحرب لا معنى لها.
وعزز الموقف الأميركي في ما بعد، ما لاحظته الادارة الأميركية بأنّ إسقاط نظام الرئيس الأسد لن يأتي بنظام أفضل.
ولكن التصريحات التي تشير الى دور حلفاء أميركا وفي مقدمهم تركيا، في تقديم الدعم الى المنظمات المقاتلة في سورية والعراق والتي باتت إرهابية كـ»داعش والنصرة»، لم يتوقف على تصريحات بايدن فحسب، اذ تطرقت اليها أيضاً مقالة في صحيفة «ديلي تلغراف»، ورد فيها أنّ مصرفياً قطرياً كان يحوّل الأموال الى «داعش». وكشف المقال الذي كتبه روبرت منديك، أنّ عشرين من رجال المال والأعمال القطريين، ساهموا في تزويد «داعش» بالأموال، وكان أبرزهم وأكثرهم نشاطاً خالد محمد تركي السبيعي، وعمره 49 عاماً، على حدّ قول الصحيفة المذكورة.
وفشلت قطر في وقف عمليات التمويل تلك، أو كانت على علم بها ولم تسع الى إيقافها. والمعلوم أنّ الدول تراقب عادة التحويلات المالية الكبيرة ضمن مراقبتها لعمليات غسيل الأموال غير المأذون بها دولياً، في إطار مكافحة تجارة المخدرات. من هنا بات من المستغرب جدا، ألا تلاحظ حكومة قطر تحويل كميات كبيرة من الأموال تجاوزت المليارات، من بنوكها الى بنوك أخرى أو الى أشخاص آخرين، خصوصاً أن الحقائق تكشف عن انتشار الحديث عن قيام قطر بتمويل المنظمات الإرهابية بمشاركة تركية، اذ تطرّقت اليه أيضاً، عدة صحف أميركية، بل وصحف تركية كذلك.
وكان أحد الوزراء في الحكومة الألمانية قد ادلى بتصريح قبل عدة أسابيع، وجه فيه الاتهام علناً الى قطر بتمويل الارهاب وخصوصا تنظيم «داعش». وفي خطاب لرئيسة جمهورية الأرجنتين أمام مجلس الأمن، الذي عُقد خصيصاً لاتخاذ قرار بالسعي لوقف تمويل «داعش» والارهاب، قالت رئيسة تلك الدولة اللاتينية، إنّ دول الغرب هي التي تموّل الإرهاب وتموّل «داعش» بالذات والتي نجتمع اليوم هنا لدراسة كيفية وقف تمويلها». وما لفت الانتباه، أنّ خطاب الرئيسة المذكورة والذي كان يبث على الهواء مباشرة، قد انقطع بثه فجأة عندما بدأت تدخل في التفاصيل. ولم يعلم أحد إنْ كان ذلك الانقطاع نتيجة خلل فني، أم كان انقطاعاً مقصوداً.
ويشدّد البعض على القول إنّ معركة عين العرب باتت معركة مفصلية تكشف عن النوايا الجدية والحقيقية لدول التحالف، وخصوصاً الدولة الأميركية، لأنها ستكشف عن مدى جديتها في محاربة الإرهاب وخصوصاً تنظيم «داعش». فالولايات المتحدة قد تردّدت طويلاً في الشروع بتلك الحرب على الإرهاب، رغم كلّ النداءات والتحذيرات التي وجهها إليها بعض السياسيين والمحللين الاستراتيجيّين من مخاطر السكوت عن التنامي التدريجي والملحوظ لتلك القوة الغاشمة. ويقول الدكتور خالد صفوري، في حوار سياسي له على قناة «بي بي سي عربي»، إنّ توقيت الشروع بالهجوم الأميركي، يوحي أو يرجّح بأن الرئيس أوباما قد أقرّه أخيراً نظراً إلى اقتراب موعد انتخابات الكونغرس الأميركي، والتي ستجري بعد أسابيع قليلة. فالرئيس الأميركي بات يخشى فقدان حزبه الديمقراطي بنتيجة تلك الانتخابات، أغلبيته في مجلس الشيوخ، كما فقدها قبل عامين في المجلس النيابي، مما سيجعل من الصعب على الرئيس الأميركي تمرير أيّ من القوانين التي يريد تشريعها خلال مدة العامين المتبقية له في سدة الرئاسة الأميركية.
وهكذا بات يتجلّى للمراقبين، أنّ المعركة حول كوباني أو عين العرب، هي معركة مفصلية تؤكد جدية أميركا ودول التحالف في محاربة الارهاب، وبالذات في محاربة تنظيم «داعش»، الذي طور أساليبه في تجنّب مفاعيل الغارات الجوية عليه، فبات يستخدم في تنقل عناصره سيارات مدنية عوضاً عن التنقل بآليات عسكرية، كما لم يعد يرفع أعلامه السوداء على تلك الآليات، تجنّباً لاصطيادها من قبل الطائرات المغيرة.
والآن بات علينا الانتظار لنكتشف مستقبل تلك الغارات الجوية، ومدى فعاليتها وجديتها، بل ونجاحها، في مقاتلة «داعش»، خصوصا أن معركة قد تكون حاسمة جداً، تدور الآن على مشارف مدينة كوباني، أي عين العرب، وذلك إضافة الى معركة أخرى لا بدّ من حسمها، وهي وقف تمويل «داعش» وتزويده بالسلاح، علماً أنّ «داعش» قد بات يمتلك الآن مصادر تمويل ذاتية عن طريق بيع النفط الذي يستخرجه من آبار نفط سورية وعراقية. ولكنه نفط يصبح بلا قيمة اذا امتنعت الدول عن شرائه، علما بأنّ أهمّ أسواق ذلك النفط هي تركيا التي تغتبط بشراء نفط بثمن زهيد، بل وزهيد جداً.
فالحلّ الحقيقي لما يجري في المنطقة، وليس بقضية معركة كوباني فحسب، لا يمكن أن يقتصر على قصف جوي أو حتى تدخل بري، إنما يقع بين يدي تركيا وتركيا وحدها، التي بوسعها إغلاق حدودها في وجه تدفق المقاتلين والسلاح إلى الداخل السوري والعراقي، إضافة الى وقف تدفق النفط غير الشرعي الذي ينتجه «داعش» إلى الداخل التركي باعتبارها المستهلك له، أو الطريق الوحيد لمروره إلى أسواق المستهلكين الآخرين إنْ وجدوا.
وعلى ضوء هذا الأمر، قد يفهم السبب وراء تصريحات بايدن المفاجئة، والتي تدين تركيا باعتبارها الللاعب الأساسي في ما بات يحدث الآن في المنطقة.
عضو في جمعية الدراسات الاستراتيجية الفلسطينية Think Tank .
عضو في مجموعة لا للتدخل الأميركي والغربي في البلاد العربية.
عضو في رابطة الصداقة والأخوة اللبنانية المغربية.
عضو في رابطة الأخوة المغربية التونسية.