نصر الأقصى وتداعياته على الكيان

زياد حافظ

تراجع حكومة الكيان عن الإجراءات غير القانونية وغير الأخلاقية بحق المقدسيين والمصلّين في المسجد الأقصى يشكّل تحوّلاً كبيراً في المشهد الصهيوني ويُنذر بتداعيات كبيرة شديدة السلبية تجاه مستقبله القريب والبعيد. فهذه ليست المرّة الأولى التي يتراجع فيها الكيان عن قراراته بعد الضغط الشعبي المتصاعد والعارم في الشارع الفلسطيني والشارع العربي على حدّ سواء. فلقد تراجع في السابق عن قرار تقسيم الأوقات بين المصلّين والصهاينة في حرم مسجد الأقصى. كما تراجع مؤخراً عن قراراته بحق المعتقلين في السجون الصهيونية بعد انتفاضة الأمعاء الخاوية. واليوم يتراجع أمام غضب المقدسيين وسائر الفلسطينيين والعرب.

من الواضح أنّ سلسلة التراجعات لا تعني المزيد من التخبّط داخل حكومة الكيان فحسب، بل الزيادة في وتيرتها وخطورتها. ونرى هذا التخبّط في المجالات السياسية كافة سواء على جبهة الجولان أو على صعيد التعاطي مع الأشكال كافة للانتفاضة القائمة التي أصبحت عصّية على الكيان في تحديد معالمها. فكلّ يوم يُفاجأ الكيان بأشكال مختلفة من العصيان ما يجعله يتسرّع في اتخاذ قرارات غير محسوبة وغير مضمونة. فرهاناته على سكوت عربي وعلى انقسام فلسطيني وعلى تنسيق أمنى مع السلطة الفلسطينية أوقعه في حالة استرخاء واستهتار. أطلق رئيس وزراء الكيان الكذبة بأنّ الكيان يعيش أفضل حالاته الاستراتيجية بسبب موقف بعض الدول العربية المهرولة للتطبيع وللتحالف معه ضدّ محور المقاومة، غير أنه أصبح يصدّق كذبته. وهنا تكمن مصيبته أمدّ الله بعمرها! لم يأخذ بعين الاعتبار وجود شعب يقاوم ويرفض الاستسلام.

التراجعات تدلّ أيضاً على تراجع في الموقف الدولي وفتور في الموقف الأميركي تجاه تعامل حكومة الكيان مع انتفاضة الأقصى. فعلى الصعيد الأميركي كانت الإدارة الأميركية شبه غير مبالية للتطوّرات، وعندما قرّرت إرسال موفدها جاسون غرينبلات إلى القدس كان الأمر قد انتهى. لم تكن هناك وساطة أميركية لإخراج نتنياهو من الورطة كما تبيّن من ندوة أعدّتها مؤسسة بروكنز حول أحداث الأقصى بعد أن انتهى كلّ شيء. اللافت للنظر في هذه الندوة التي عقدت في مركز حاييم صبّان المعروف بدعمه للكيان داخل مؤسسة بروكنز أنّ إجماعاً حول خسارة نتنياهو لهذه الجولة جاء نتيجة ضغط من «تحت إلى القمة». أيّ بمعنى آخر كان هناك اعتراف بالإنجاز الشعبي في القدس وفي فلسطين وفي عدد من الدول العربية. توافق المجتمعون في تلك الندوة على أنّ الشارع العربي ما زال حيّاً وما زال يعتبر القدس وفلسطين أولوية. كما تكلّم المشاركون عن شبه اللامبالاة لإدارة ترامب وتأخّرها في اتخاذ موقف من الأزمة. ونقل بعض المشاركين انطباعهم عن المزاج الشعبي العربي الذي رسم والشعب الفلسطيني خطوطاً حمراء في ما يتعلّق بالقدس. ويعزّز هذا الاستنتاج ما جاء به الصحافي جدعون ليفي في صحيفة «هآرتس»، حيث اعتبر تراجع نتنياهو هزيمة كبيرة.

هذا يعني أنّ قواعد الاشتباك السياسية أصبحت في منال الشارع العربي ولم تعد حكراً على حكومة الكيان ومَن يدعمه. فهرولة بعض الحكام العرب للتدخّل وإعلانهم أنّ تدخلّهم أوجد الحلّ هو تعبير عن خشية واضحة من تفاقم الأوضاع. وهذا يعني أيضاً أنّ المشاريع التي تمّ صوغها والإعلان عنها في وسائل الإعلام الصهيونية والعربية المموّلة من المال النفطي كـ «الحلف السنّي» قد سقط أو على الأقلّ تمّ تحييده إنْ لم يفقد حتى جدواه. قد تبيّن من خلال موقف أهالي القدس ومن تظاهر ضدّ الإجراءات في دول عربية عدة، ومنها الأردن واليمن وتونس ولبنان أنّ الحكومات العربية تخشى الشارع العربي. فكيف يمكن لها أن تمضي في حلف مع الكيان الصهيوني؟

التخبّط داخل حكومة الكيان دليل على أنّ رئيسها ضعيف ويخشى انفراط عقد تحالفه مع قوى اليمين المتطرّف. التقارير الصهيونية تفيد أنّ عدداً من القيادات العسكرية والأمنية كانت متحفّظة تجاه القرارات التي اتخذتها حكومة نتنياهو، لكن خشية الأخير من الظهور بموقف ضعيف تجاه الأحزاب اليمينية المتحالفة معه داخل حكومته بعد استشهاد الجبّارين الثلاثة جعلته يرضخ لابتزاز تلك القوى. هذا يعني أنه هُزم مرّتين في وقت واحد: الأولى أمام أهل القدس والشعب الفلسطيني والجماهير العربية التي اعترضت على قراره، والمرّة الثانية أمام قوى اليمين المتطرّف داخل حكومته. هذا يدلّ على استحقاقات كبرى آتية عاجلاً أم آجلاً ستفرض عليه المزيد من القرارات غير المحسوبة وتداعياتها الوخيمة عليه وعلى مستقبل الكيان.

لا ننسى أنّ فضائح فساد تلاحق نتنياهو، وهو بالتالي أكثر تمسّكاً بالحكم، مهما كلّف الأمر. والدليل على ذلك تراجعه، مرّة أخرى، عن قراره في دعم الاتفاق الروسي الأميركي حول سورية وخاصة في منطقة الجنوب الغربي من سورية. فقد اعترض اليمين المتطرّف في حكومته أنّ الاتفاق أو التفاهم الروسي الأميركي خالٍ من ضمانات لعدم وجود حزب الله أو عناصر من الحرس الثوري الإيراني على حدود الجولان. يمكن وصف نتنياهو في هذه الأيام، بأنه رئيس التراجعات. فلم يعُد يمتلك زمام المبادرة لا على الصعيد الداخلي ولا على الصعيد الخارجي.

التراجع في القرارات يعكس أيضاً أزمة بنيوية سياسية داخل الكيان. تعاظم دور الأحزاب اليمينية المتطرّفة والتأييد الشعبي الصهيوني لسياسات عبثية ومدمّرة تجعل مستقبل الكيان قاب قوسين أو أدنى. فهذه السياسات أدّت وما زالت إلى تراجع في التأييد الدولي للكيان كتعاظم حملة مقاطعة «بي دي أس». كما نلحظ التراجع في التأييد الشعبي الأميركي وحتى داخل الجالية اليهودية الأميركية، كما جاء في استطلاعات عدّة، وكما جاء في مقال في مجلّة «فورين بوليسي» لديبرا كامين بتاريخ 28 تموز/ يوليو 2017 وتحت عنوان: «الشرخ بين إسرائيل والولايات المتحدة: هل تخلّى يهود أميركا عن إسرائيل؟».

أما على الصعيد العربي بشكل عام وعلى صعيد القوى العربية والإسلامية المناهضة للكيان، فهي تعتزّ بالنصر الذي تحقق في القدس. وهذا النصر سيُدرس في مراكز قرار المقاومة، حيث ستتأكد إمكانية هزيمة العدو، ليس فقط عسكرياً، كما حصل في لبنان، بل سياسياً بفعل الضغط الشعبي. وهذا النصر سيتراكم مع إنجازات أخرى في الميدان ستؤدّي حتماً إلى استرجاع القدس وفلسطين كلّها، كما ستؤدّي إلى تغيير في البنية السياسية العربية لمصلحة قوى أكثر تلاحماً مع مصالح الجماهير العربية في مختلف الأقطار. ففلسطين ستحرّر العرب من التبعية لأنظمة الرجعية والتبعية للغرب وللكيان. وهذه هي إحدى النتائج المرتقبة من نصر القدس.

أمين عام المؤتمر القومي العربي

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى