أبعاد انتصار تمّوز الجديد…
أسامة العرب
إنّ الانتصار الكبير الذي تحقق في جرود عرسال وفليطة دوّى صداه الإيجابي في الإقليم الذي يعاني منذ سنوات من الإرهاب، لا سيما بعدما تحرّر الأهالي من أسر التنظيمات الإرهابية، وباتوا يرون في تكامل بندقيتي الجيش والمقاومة واجباً على كلّ الجبهات. إذ انّ انتصار تمّوز الجديد كرّس من جديد المعادلة الماسية «الجيش والشعب والمقاومة»، التي رفعت وترفع اسم لبنان عالياً، وترتفع بأهله عن المذلة والهوان . وقد بات الجيش اللبناني يعرف أنّ لديه سندًا قوياً إلى جانبه هو المقاومة، وقراراً سياسياً بالقضاء على الإرهاب، وبيئة شعبية حاضنة على مستوى لبنان.
ولهذا الانتصار أبعاد كبيرة جداً، إذ إنّ النظرة الأحادية البُعد إلی تشكّل التنظيمات الإرهابية التي عاثت في الأرض فساداً، والتركيز على أنها ظاهرة إيديولوجية متطرّفة فحسب، نتجت عن عوامل غسل أدمغة، لن يكون تحليلاً دقيقاً وعلمياً. ذلك أنّ هذه التنظيمات، قد خرجت من رحم العلاقة غير الشرعية بين الإدارة الأميركية السابقة وحلفائها الإقليميين الذين رغبوا بنشر الفتنة المذهبية في المنطقة، لإنهاء انتصارات المقاومة على «إسرائيل». غير أنّ صمود المقاومين، وإيمانهم بنبل قضيتهم، أدّى إلى إسقاط مشروع «الفتنة الخلاقة»، والتي كان من المُعدّ لها بالسابق أن تنطلق من لبنان، ثم أدى إلى دحر جبهة النصرة عن الأراضي اللبنانية.
وبالتالي، فإن هذا الانتصار الكبير الذي تحقق، إنما هو انتصار بطبيعة الحال لقضية فلسطين والقدس والأقصى، ولأنه لو قدّر لمشروع «الفتنة الخلاقة» بأن ينجح لدخلنا في صراعات دموية لا تنتهي ولا تحمد عقباها. فالخبير الروسي إيغور بانكراتنكو، يرى أنّ التنظيمات الإرهابية قد تشكلت لسببين مهمّين هما: أولاً تقسيم العراق وسورية ولبنان إلى أجزاء متعدّدة، وثانياً نشر الفتنة المذهبية في هذه الأجزاء، كي لا يتوقف القتال أبداً بينها. الأمر الذي من شأنه أن يخلق حالة من الفوضى في دول محور المقاومة خدمةً لمصالح الكيان «الإسرائيلي»، ويؤمّن لهذا الكيان الأمن المستدام ويبعده عن دائرة التجاذبات.
ولذلك، فإنّ الصحف العبرية قد أفادت مؤخراً بأنّ «إسرائيل» هي حالياً الطرف الأكثر تضرّراً من التطورات العسكرية والسياسية على الساحة اللبنانية، وصنّاع القرار في تل أبيب يطرحون تكتيكات عدة لمواجهة هذه التطورات، لكنهم يدركون أنّ مجال مناورتهم يتقلّص باستمرار خاصة على ضوء سقوط مشروعَيْ «الفتنة الخلاقة» ودولة الخرافة التي كان من الممكن أن تنتقل إلى لبنان، وكذلك بسبب عدم اتضاح السياسة الأميركية ورغبة واشنطن في عدم الدخول في امتحان قوة مباشرة مع موسكو في المنطقة. وبالتالي، فإنّ أحلام «إسرائيل» التي نشرتها في تقرير صادر عن معهد الأبحاث في قضايا الأمن القومي تحت عنوان «خريطة المنطقة الجديدة واللاعبون الجدد: التحديات والفرص أمام إسرائيل»، قد أصبحت سراباً، حيث باتت دولة الاحتلال ترى أنّ على حكومتها أن تعيد النظر في قواعد «اللعبة الإقليمية التقليدية«. ولم يكن من السهل على القادة «الإسرائيليين» التخلي عن هذا «الحلم الجميل»، الذي كانوا يرونه فرصة لأسرلة أجزاء من الدول المجاورة ومن دون الحاجة لدفع أثمان غالية.
وإذا كان البعض يظنُّ بأنّ تصريحاً من هنا، وإطلالة من هناك سوف توقع الفتنة بين الجيش والمقاومة، فإنه واهم. إذ إنّ قوة هذا البلد هي في احتضان الشعب للجيش والمقاومة، وهذا الثلاثي القويّ سينتصر حكماً، لأنّ للجيش والمقاومة هدفاً واحداً وعدواً واحداً، ولأنّ تواريخ عديدة أُرّخت لتضحيات الجيش والمقاومة معاً، بدءاً من معارك تحرير جنوب لبنان، ومروراً بحرب تمّوز 2006، وما تبعها من تحرير للأسرى اللبنانيين من السجون «الإسرائيلية»، ومواجهة الاعتداء الصهيوني في عديسة عام 2010، وليس انتهاءً بالانتصار الذي تحقق ضدّ التكفيريين في جرود عرسال. وبالتالي، فإنّ التنسيق والوعي الذي تبلور بين عناصر الجيش ومجاهدي المقاومة لتحرير الأرض، ودرء أطماع الصهاينة والتكفيريين في أرض لبنان وثرواته، جعل من المقاومة سنداناً للجيش، فيما كانا معاً المطرقة التي دحرت الإرهابيين من الجرود.
ولا يزايدنّ أحد على مساعي دول محور المقاومة بتعزيز قدرات الجيش اللبناني التسلّحية، وما أدلّ على ذلك سوى أنه لولا تدخلات السياسيين المعرقلة لمساعي هذا المحور لتحوّل جيشنا اللبناني إلى واحد من أقوى الجيوش العربية في المنطقة، ففي الوقت الذي جمّدت فيه السعودية هبتها المتواضعة للجيش اللبناني، جدّدت إيران تأكيد حرصها على تعزيز قدرات الجيش التسلحية، وقدّمت له هبة سخيّة جداً معلنة استعدادها لتزويد الجيش اللبناني بكلّ ما يطلبه ويحتاجه، وتعتبر هذه الهبة أكبر دعم للجيش اللبناني، ولكن لم تتمّ الموافقة عليها لأسباب معروفة، وهي كانت ستحوّل جيشنا الوطني خلال سنة واحدة إلى جيش يُضاهي بقوته جيوشاً كثيرة في المنطقة، لا سيما أنّ إيران أعلنت عن استعدادها لتسليم الجيش اللبناني صواريخ بعيدة المدى من شأنها أن تمنع «إسرائيل» من التفكير حتى ولو للحظة واحدة بانتهاك السيادة اللبنانية.
غير أنّ الطريقة التي تعاطى ويتعاطى فيها البعض من السياسيين مع هذا الملف تثير علامات استفهام كبيرة، أولاً لأنّ طهران لم تعرض على لبنان بيعه أسلحة وذخائر ومعدات عسكرية، وإنما قدّمت له هبة مجانية وغير مشروطة، وثانياً لأنّ الهبة الإيرانية تتعلّق بمعدّات عسكرية لجيشنا الوطني، هو بأمسّ الحاجة إليها، وكان وزير الدفاع السابق سمير مقبل قد زار طهران مع وفد من الضباط المختصين وعاينوا عن قرب ما يمكن أن يتزوّد به الجيش اللبناني من أسلحة بموجب هذه الهبة، وثالثاً لأنّ الخارجية الإيرانية أعلنت بأنّ عرضها مفتوح لمساعدة الجيش اللبناني، ومتى جاءت الموافقة فإنّ هذه المعدات العسكرية سوف تكون على الأراضي اللبنانية خلال أيام معدودة، ورابعاً لأنّ البتّ بموضوع الهبات عادةً لا يأخذ على طاولة مجلس الوزراء أكثر من ثوانٍ معدودة، لا سيما أنّ خزينة الدولة سوف لن تدفع شيئاً بما في ذلك تكاليف النقل من طهران الى بيروت، وأخيراً لأننا لو قبلنا هذه الهبة بوقتها لما تمكّنت التنظيمات الإرهابية من أسر جنودنا اللبنانيين. هذا وقد سبق للإيرانيين أن قدّموا مؤخراً الى الحكومة العراقية وحكومات أخرى هبات مماثلة ولم يعترض أحد عليها، كما زوّدت إيران في السابق البيشمركة الأكراد بأسلحة وذخائر ومدافع وقذائف صاروخية منذ بضع سنوات لمواجهة هجوم تنظيم داعش، وكان من ثمار ذلك أنها ساهمت في منع الإرهابيين من احتلال المناطق الكردية.
لكن وبالرغم من أهمية انتصار جرود عرسال وفليطة الكبير، فإنّ الفرحة سوف لن تكتمل ما لم يتمّ الإفراج عن العسكريين المخطوفين لدى داعش، وتطهير جرود رأس بعلبك والقاع من الإرهاب بالكامل. لا سيما أنّ أمل أهالي العسكريين كبير ببشائر الخير، حيث أعرب السيد حسين يوسف والد العسكري المخطوف البطل محمد يوسف، عن أمله بأن تحسم التحضيرات الأمنية والعسكرية المعركة ضدّ الإرهابيين وتنهي وجود تنظيم داعش من الجرود اللبنانية وتضغط على التنظيم لإنجاز مفاوضات الإفراج عن العسكريين. كما أنّ الجيش اللبناني والمقاومة يتحضّران لهذه المعركة بدقة متناهية وهما يأخذان بعين الاعتبار مصير الجنود المختطفين لدى داعش، ويمارسان الضغوط على «داعش» من أجل إعطائه فرصة بسيطة حتى يوضح مصير العسكريين المخطوفين في مقابل تسهيل انسحابه من الأراضي اللبنانية، وما هي إلا أيام قليلة ويكون هؤلاء الأبطال الأشاوس في منازل ذويهم، بإذن الله، وتعمّ الفرحة على عموم اللبنانيين.
محامٍ، نائب رئيس
الصندوق الوطني للمهجرين سابقاً