قوة لبنان ما عادت… في ضعفه
د. وفيق إبراهيم
تتسلّل فرصة نادرة من جرود القاع ورأس بعلبك لإعادة بناء وطن لبناني لا يرتمي كعادته في أحضان السياسات الدولية والإقليمية، ويتركها تتصرّف به بذريعة حمايته.. هذا ما أدّى إلى احتلال «إسرائيلي» بلغ العاصمة بيروت مستمراً في الجنوب حتى العام 2000، ومجرّباً العودة في 2006، لكنّ حزب الله لقّنه درساً مريراً في فنون المقاومة فاتّعظ وارعوى.
كانت الدولة اللبنانية تهرب من «القرار السياسي» نتيجة لارتمائها في أحضان الإقليم والسياسات الدولية. هذا ما أدّى إلى تسلّل الإرهاب إليها، مستوطناً المخيمات الفلسطينية والسوريّة والبؤر الداخلية والزوايا الدينية. وما فاقم من دور الإرهاب في لبنان اعتماده على «حكمته الذهبية» أيّ «قوّة لبنان في ضعفه»، مع تطبيقه «رغبات الإقليم» الإرهابية، وتغطية بعض القوى اللبنانية لمنظمات تكفيرية استوطنت في أجزاء من البلاد بحجج مذهبية وطائفية.
لقد التزمت القوى اللبنانية الطائفية منذ استقلال البلاد في 1948 بنظرية قوّة لبنان في ضعفه. الأمر الذي أنتج بلداً هزيلاً مفلساً ومديناً، يأتمر بقوى الصراع الإقليمي من دون أن ينبس ببنت شفة، منصاعاً لوليّ الأمر الدولي بخشوع وامتنان… فماذا كانت النتيجة؟
تقاسم سياسي للدول بين القوى الداخلية المرتبطة بالإقليم، مع نهب منظّم للاقتصاد ودمج المواطنين في إطار العصبيات المذهبية والطائفية… حتى وصل الأمر إلى حدود العجز عن اتّخاذ أيّ قرار في المستوى الوطني والسياسي والنفايات والمياه والكهرباء والقضاء والجامعة، مع تعطيل دور الجيش اللبناني في المسائل الوطنية الكبرى: التصدّي لـ»إسرائيل» ومقاومة الإرهاب، تحت ضغوط العنصرين الإقليمي والدولي».
فتسليح الجيش تسلّمته السياسة الأميركية التي كانت تتبجّح بتسليمه «هدايا عسكرية» لا تصلح حتى لقوى الأمن الداخلي، مقابل منع الدولة اللبنانية من شراء أسلحة ذات قيمة في الدفاع والهجوم أو قبول هدايا عسكرية من بلدان أخرى.
كانت السياسة الأميركية تُصرّ على تسليح للجيش بشكل لا يجعله قادراً على مقاومة «إسرائيل»، وتأمر القوى الداخلية الخليجية الهوى بتعطيل دور الجيش في مكافحة الإرهاب، بذريعة أنّ قوى من طوائف إسلامية أخرى قد تستفيد من هذه الهزيمة.
ما جرى إذن هو «تسييب» للوطن والسطو على اقتصاده وهدر قوّته العسكرية في إطار أنّ «قوة لبنان في ضعفه». وهي نظرية تفتّقت عنها عبقرية المارونية السياسية التي هربت من الاستحقاقات الخارجية والداخلية بواسطتها، وأتاحت لها فرصة عدم الالتزام بقضايا الداخل اللبناني والخارج العربي والاستحقاقات الدولية… بدليل أنّ جنوب لبنان ظلّ تحت السيطرة «الإسرائيلية» في أوج مرحلة المارونية السياسية 1948 2000 من دون أن تسمح للجيش بأداء أيّ دور.
للتوضيح، فإنّ المارونية السياسية لم تكن مذهباً حصرياً، بل مجموعات من القوى السياسية المتنوّعة المذاهب التي كانت تأتمر بتعليمات أميركية صرفة. أما ورثتها، فهم المتحدّرون من اتفاق الطائف 1989، الذين فتحوا آذانهم لتعليمات الإقليم والسياسات الدولية، حتى أنّ السفير السعودي تحوّل إلى سلطان غير متوّج يتمختر ويجول كطاووس.
وللمزيد من صحة هذا التحليل، عودوا إلى قصة الشيخ الأسير الذي قاد عملية عسكرية مذهبية تستهدف قطع الطريق بين بيروت والجنوب في مدينة صيدا، وكان يحاول إنشاء قوّة مذهبية كبرى لزجّها في حرب مذهبية ضدّ حزب الله… الطريف هنا أنّ الدولة وقفت على الحياد وتركت لحركة الأسير أن تنمو بين الأوساط المتطرّفة ومخيمات الفلسطينيين والنازحين السوريين والمنظمات الإرهابية في سورية! أليس مضحكاً أن نرى وزير داخلية لبنان آنذاك يزور الأسير أكثر من مرّة، يفاوضه ويقف على خاطره؟! أليس مأساوياً أن يفرّ الأسير ومعه بعض أعوانه بواسطة نوّاب من صيدا وفّروا له مهرباً وملجأً بعد هزيمته العسكرية؟!
هذا هو النموذج لدولة «اللاقرار» التي تعطّلها قواها الطائفية المتحالفة «عرفاً»، بما يشبه النظام الكونفدرالي. تتقاسم الدولة وتحافظ على انقساماتها المذهبية والطائفية حرصاً على مصالح الإقليم ومصالحها السياسية والاقتصادية.
ما الذي استجدّ إذن حتى أصبح لهذه الدولة المأساوية قرار؟
هناك أسباب متعدّدة، لكن أوّلها انكسار قوى الإرهاب في سورية والعراق وتراجعها بشكل لافت بالتقاطع مع الصراع المندلع بين قواها المشغّلة لها في السعودية وقطر. ما أدّى إلى انحسار التغطيات السياسية للإرهاب من قِبل السعودية وقطر وتركيا، لأنّ كلّ طرف منها رفع حمايته عن القوى الإرهابية الموالية للطرف الآخر، فأصبحت شبه عارية في عين شمس المقاومة.
لكنّ الدور الأميركي في هذا الشأن لا يُستهان به، فواشنطن المتأكّدة من انهيار الإرهاب انتقلت من مرحلة الاستثمار فيه إلى مرحلة معاداته، ليس لإرهابيّته، بل لأنّه لم يعد قادراً على تلبية متطلّبات مشروعها التفتيتي في المنطقة. الأمر الذي يتطلّب إنهاءً للتنظيمات التكفيرية وإعادة إنتاجها بلبوس عصريّ مقبول، مثل «مغاوير الثورة» و»جيش سورية الجديد» و»قوّات العشائر»، فاستشعرت به القوى المحسوبة عليها في لبنان والمنطقة العربية.
إنّ من يتابع وسائل الإعلام السعودية والخليجية، يكتشف هذه النقلة الجديدة الإعلامية المعادية للإرهاب بعد نصف عقد على تأييده ونصرته بقدرة قادر أميركي… وربما أكثر.
لجهة لبنان، هناك إضافة جديدة تتعلّق بفوز الجنرال ميشال عون برئاسة الجمهورية متحالفاً مع حزب الله والقوى الوطنيّة، ومرغماً الفريق السعودي الأميركي على تأييده، فتبدّلت سياسة دفن الرأس في الرمل، لأنّ الرئيس عون المتخرّج من مدرسة الجيش ملازماً وقائداً، يعرف ضرورة إشراك الجيش في الدفاع عن البلاد، وأهمّية تحويل الدولة إلى دولة القرار، مدركاً أنّ قوّة لبنان ليست في ضعفه بل في قوّته الاجتماعية والعسكرية.
لذلك، فإنّ مجمل هذه الأسباب أتاحت لحزب الله تحرير جرود عرسال كبالون اختبار لاستقراء ردود فعل القوى اللبنانية الموالية للسعوديّة على إمكانيّة تحرير الجيش لجرود القاع ورأس بعلبك، ولأنّ تجربة الحزب كانت ناجحة وسحقت الإرهابيين من «النصرة»، فقد كشف أيضاً عن بدء التحوّل في وضعيّة الجيش اللبناني من وضعية الدفاع إلى وضعيّة الهجوم وسط صمت القوى الموالية للخليج، ما أتاح ولادة خطّة عسكرية للجيش يحرّر فيها ما تبقّى من جرود لا تزال رهينة عند «داعش».
وهكذا يقتحم الجيش الأراضي التي احتلها الإرهابيون، بإجماع من القوى اللبنانية للمرّة الأولى منذ 1989، وبتنسيق مع حزب الله والجيش السوري. وهذا أمر ما كان مقبولاً قبل أيام عدّة فقط، لكن ظروف الإقليم وشجاعة حزب الله سمحت بإلغاء شعار «قوة لبنان في ضعفه»، إلى شعار «قوة لبنان في وحدة اللبنانيين وبسالة جيشه ومقاومته». أليست هذه هي المعادلة الذهبيّة للبنان الجديد؟!