التنف.. جزيرة معزولة خُطفت من يد أميركيّة مبتورة في سورية
بهاء خير
طوال فترة الحرب على سورية، شكّلت المعابر الحدوديّة أو النقاط الحدوديّة نقاط ضغط على الدولة السوريّة، خاصة المعابر الفاصلة ما بين سورية وتركيا وعلى الحدود مع لبنان والأردن أو حتى الحدود الفاصلة ما بين العراق وسورية، خاصة بعد سيطرة تنظيم «داعش» الإرهابي على جزء من منطقة الأنبار المتّصلة جغرافياً مع الأراضي السوريّة.
حرب المعابر باتت في حكم المنتهية بعد تقدّم الجيش السوري والسيطرة على مساحات واسعة، والتغيير في خارطة السيطرة على عكس ما كان مرسوماً.. إضافة لتقدّم عراقيّ على طول الحدود، وربط عسكريّ مع القوّات السوريّة على الطرف المقابل..
كلّ الحدود لا تقلّ أهمية عن بعضها، ولكن لقسمٍ منها تفضيلٌ على بعضها الآخر..
الحدود الجنوبية لسورية حدود لها تاريخ ليس بالقليل، إذا ما قسنا ذلك على ما شهدته من أحداث وتطوّرات مرّت عليها.
فالحدود الممتدّة على طول 375 كم ليست مجرّد حدود رسمت ما بعد سايكس بيكو لتقسّم مناطق جغرافيّة موحّدة، بل كانت الحدّ الفاصل ما بين عائلات متداخلة وعشائر يرد بعضها الآخر على جانبي الحدود. هذا التواصل جعل من تلك الحدود فرصة للاستغلال من قِبل قوى سعت وتسعى لجعل كلّ النقاط على طولها نقاط ضغط وتوتّر، ولكن بتقدّم واسع وعلى نقاط عديدة باتت الحدود السوريّة الأردنيّة هدفاً أساسيّاً للقوّات السورية، خاصة بعد الدور الأردني المتعاون مع القوى الضاربة للاستقرار في سورية.
نقطة حدوديّة ليست بالبعيدة عن الحدود الأردنية، ولكن تُعتبر على مرمى نظر القوّات الأردنية والقوّات الحليفة لها والمتموضعة في الداخل الأردني.
نقطة التنف الحدودية الفاصلة ما بين سورية والعراق، ليست مجرّد نقطة حدودية أو معبراً فاصلاً بين حدود دولتين، بل دخلت تاريخ الحرب على سورية لما حصلت عليه من تغطية وحضور إعلامي ليس بالقليل، لا سيّما بعد الحضور الأميركي في تلك المنطقة والتهديدات بعدم اقتراب أيّ قوات منها.. باعتبار واشنطن عدّتها نقطة متقدّمة لقوّاتها المتواجدة في الأردن، وبؤرة تجعل لواشنطن موطئ قدم على طول حدود باتت بحكم المسيطر عليها عراقياً وسورياً.
بعد تجاذبات عديدة واعتداءات أميركيّة على القوّات السورية في البادية بحجّة اقترابها من محميّة أميركية هي «التنف»، فجأة ومن دون سابق إنذار، عنوان عريض يُطرح بأنّ القوّات الأميركية تعتزم الانسحاب من التنف وتسليمها للقوّات الروسيّة. هنا، فمن الطبيعي أن تُطرح أسئلة عديدة. لماذا تتّخذ أميركا هذه الخطوة؟ وهل يُعتبر ذلك انسحاباً أميركياً نتيجة ضغوط عسكرية كما يراه البعض؟
أميركا لا تتّخذ خطوات اعتباطية أو فُجائية، وهذا ضمن استراتيجية واشنطن العسكرية والتكتيكية، فالتنف شكّلت فترة زمنيّة تضغط من خلالها واشنطن، والإيحاء بأنّها تنوي التموضع والاستقرار ولكن بالمنظور الأوسع، فما حدث هو مناورة أميركيّة للفت الانتباه عمّا يُحضّر في المطبخ الأميركي. فواشنطن تعلم بأنّ الحماية الأمنيّة للتنف ليست في ملعب الإدارة الأميركية وحتى حلفائها، فالتنف مع التقدّم الكبير للقوّات السورية والعراقية باتت جزيرة معزولة حتى ولو كان لها طريق مفتوح نحو الأردن، القاعدة الكبيرة للقوّات الأميركية وحتى لقوّات الناتو في المستقبل كما هو واضح.
التنف اليوم في دائرة التسليم، ليس من باب الكرم الأميركي أو التعاون.. «بل مجبرٌ أخاك لا بطل». فأوراق أميركا التي كانت تمتلكها وتسيطر عليها لفرض معادلات في سورية كما في ليبيا أو العراق، قد فُقدت وباتت خارج اليد الأميركيّة لتستقر في اليد الروسية..
فما حصل في هامبورغ ليس اجتماعاً ومصافحة بين زعيمَيْ قوّتين عظميين، بل ما خفي كان أعظم. فكما كان مؤتمر يالطا في عام 1945 نقطة فاصلة في التاريخ العالمي المعاصر، تمكن المقاربة إلى حدّ بعيد مع ما حصل في هامبورغ والتاريخ يكشف، ففرص التدخّل الأميركي عسكرياً في سورية باتت في حكم المنتهية مع تقدّم كبير وسريع سوريّ على الأرض، وتواجد لقوّات روسيّة برّية حطّت رحالها في المنطقة الجنوبية وفق إيقاع روسيّ سوريّ، لتجعل الأميركي يلعب في المنطقة الشرقيّة معتمداً على ورقة ليست بالبعيدة عن استراتيجيته، «الورقة الكردية». فلعبة سبعينيات القرن الماضي مع مصطفى البرزاني تتكرّر، ولكن نهايتها معروفة بشط العرب.. واليوم، ذات السيناريو يتكرّر وبذات الأدوات، لذلك مستقبلها واضح المعالم ولكنّ الوقت هو كفيل بها…