المعرض في حضن الوطن
المعرض في حضن الوطن
في جلسة مع الذات، تذكرت تلك النكتة التي انتشرت بشكل كبير في حقبة زمنية ليست بعيدة، إنها وإن كانت بسيطة فلها ما لها من أولويات ومعانٍ. ثم ما أحوجنا إلى روح الفكاهة اليوم. عندما تقول لأحد هل لديك ما يضحك فيقول: سأسرد لك نكتة أو طرفة، ولكن بالمقلوب! وهنا نستفهم ونتساءل كيف؟ فيردّ: اِضحك أولاً ثمّ أسردها لك!
لو حاولنا تطبيق نظام النكتة وبدأنا بمقلوبها وعملنا بالابتسامة المطلوبة فما عساه يكون فحوى النكتة التي ننتظرها وبشغف؟ أو هل ستكون مما لا يكون؟ ربما يقودنا ذلك إلى حكاية تلك الأفعى التي تنسلّ أمام أعيننا ونحن صامتون كي لا نثيرها علينا، ولا نتكلّم إلا عندما تؤذي. فعند ذلك نتحرّك بأهمّ وسائط الدفاع وأقصى طرق العلاج .من الطبيعي أن نجد من يلاحقها فيحاول قتلها، ولا يطال منها غير ذيلها. ومنهم من يتعب في ملاحقتها ليصيبها في رأسها. وهنيئا لمن يتابع ويصل الهدف فيقضي على آخر نَفَس من سمّها وزعافها.
أما حديثي عن أولئك الذين لم يطالوا سوى ذيلها فستعود وتعبث في الوجود وتهدّد الحياة هذه المرّة بهجوم أعنف. فهي وبالغريزة لا تنسى الأذى. والحكيم الحكيم من تمثل بهذه الحكمة الشعرية وعمل بها: «لا تقطعنّ ذنب الأفعى وترسلها… إن كنت شهماً فاتبع رأسها الذنبا».
هذه النكتة المقلوبة مرآة لتراجيديا الفساد المتكرّر.
باتت المعيشة اليوم من أصعب ممّا قدّر للبعض، وخاصة لذلك الفقير البسيط الذي ومن أجل أن يحفظ البقية الباقية من حياة عائلته بكل ما قدّر له من تذلّل يقدّمه لبعض الرؤوس التي لشدة خفّتها استطاعت أن تطير على بساط الريح التائه! ويبقى الفقير لا يعرف إلا ما يهمّه لكسب ما يكفي عائلته لمواصلة الحياة. ثم هو كذلك قد فقد ذاكرته الاجتماعية، فإنه بالغريزة لن ينسى من آواه أو أعانه وساعده. هل كان عليه أن يعوّل على حسابات وأرقام لا يهمّه منها سوى قبض ما يستر حاله! ثم يكون المشهد سلاسل وقيوداً بين يديه؟ وهو في آن لا قدرة له حتى في الدفاع عن نفسه.
لا مال ينقذ، ولا معين يوعز؟ وربما يرمى حتى مع المضللين الأذناب بين قضبان العدالة؟
ونعود بالنكتة من جديد لنضحك ونبتسم ولكن بمقلوبها مرّة أخرى، لنسمع الطرف الثاتي منها. فإننا سنجد بين من ذكرنا جماعة الحرباء «هذه المرّة» تلك التي تتلوّن بتلوّن المكان الذي تتماهى فيه، فهي لا تستطيع إخفاء التزييف والتصنع لإظهار ما تبدعه من مظهر كاذب خدّاع، كمن يعد وعوداً ولكنه محكوم بما فُرض عليه من قبل جهة ما تتناسب وطبيعة المكان الذي يعمل به، وربما فرض هو على نفسه من تلقاء نفسه الشريرة المانعة للخير! ومن شرّ البلية أن تكون هذه هي النكتة! ولكنها تتجدّد بتجدّد الأزمنة في أسلوب وشخصيات أشدّ وقاحة وأدهى حنكة.
الآن أشباح في وضح النهار أصبحت تروي لك النكتة وبنفس الشرط بأن تبتسم قبل سماعها! ولكن هذه المرة لا تقدر على شرطها لأنك ترى وتسمع النكتة قبل مقلوبها !
إنها ابتسامة ذكريات أودعناها في «حضن الوطن»، وحضن الوطن نائم على جنبات بوابة المعرض يبسط الدفء على عتباته مقاوماً ذلك الشبح الحاقد بمحبة ولادة أبداً. لكنها اليوم تبشّر بولادة جديدة بحلة جديدة. صحيح أن شعارها هو «إكليل الشوك»، ولكنه إكليل الشوك «المقدّس» الذي رسمته رؤوس وجباه الشهداء الأبرار السمر وجعله حماة الديار منارة لكل دروب الانتصارات .
ما أجملك يا دمشق العروبة وأنت تتباهين وتتمسكين بشعار معرضك التاسع والخمسين لتكوني علماً من أعلام تاريخ المقاومة أمام الأشقاء والأبناء.
ما أجملك يا دمشق وأنت تعرضين بذات «الإكليل المقدّس» وسام النصر على صدور المصابين والمعوقين والمخطوفين الذين عانوا من أعنف حرب وأبشع تعذيب في تاريخ البشرية!
ما أجملك يا دمشق وأنت تستعرضين «سيفك الدمشقيّ» وقد لفحته شمس المجد التي ما غابت عنك يوماً.
ما أبهاك يا دمشق وحمام السلام يحلّق ويعلو في سماء ساحة الأموي آيلاً آمناً. ويعود بنا زمن الحياة، من المتوسط والعاصي وبردى حتى أقصى الفرات، لتستمرّ الحياة، وتستمرّ الحياة!
د. سحر أحمد علي الحارة