نبل الخطيئة

نسرين بلوط

أهلاً بكم اليوم في لقاء يجمع حضوراً مميّزاً من المفكّرين والمثقّفين والأدباء والشعراء وممثّلات وممثلي منظمات المجتمع المدني المتمسّكين بالثقافة الوطنية والهوية الوطنية، والمدافعين عن الكرامة الإنسانية وحرّية الرأي والمعتقد والتعبير.

أهلاً بكم في لقاء أنتظر خلاله ملاحظاتكم واقتراحاتكم القيّمة التي تزيدني رغبة بالكتابة وتوقاً إلى الأفضل.

أنتم الذين تحترقون بوهج الكلمة وتحتفون بالحرف حتى ترتقوا بأرواحكم إلى سماء الفضيلة.

أن تسكب دمك على الورق، بكلّ ما فيه من سعادة وشقاء، وأن يمتزجَ بهتاف الكلمات ويحترقَ ببخارها، وأن تستمدَّ من العتمة ظلَّ نورٍ تحرّك به المستحيل الذي كان يعبث بك من بعيد كأنه المُحال.. هذا هو الحلم.

طفلة عصرت من سواقي الكتابة خمر الإحساس. هكذا كنت، وهكذا بدأت أولى معاناتي مع الكتابة. في البداية شقيت بها فنعمتْ بي، عبّرتُ لها عن أشجاني، فَعَبَرَتْ بي إلى مكنونات الذات البشرية، رافقتها سنيناً إلى أن رَفقت بي. وعاهدتني أن تكون جزءاً من نفسي.

كانت أمي صديقتي في رحلة الكتابة، وبعد رحيلها كَبُرتُ وحيدة وكتبت وحيدة. ثم جاء وجه ابنتي جوانه ومن بعدها وجه طفلي كريم ليبثّا في أشجاني الكثير من اللهفة والمزيد من حبّ العطاء للقلم، حتى ألمح وميض الإعجاب في تقاطيع وجهيهما. فأختم الرواية بابتسامتيهما وأبصم القصيدة ببراءة دهشتيهما.

عركتني الحياة كثيراً وما زالت. أن تهب الآخرين ما يفرج عن أنفسهم بالكلمات ولكنك لا تعطي نفسك إلا المزيد من الذوبان في حريق القلم وفي المدّ والجزر بين بطل من أبطال روايتك أو برق يئنّ في قصائدك.

«الخطيئة» كانت فكرة ضئيلة تبلورت في كياني كل يوم. وأنا أقرأ في تاريخ الإنسانية وأتصفح بطولات طانيوس شاهين وبذور الطائفية التي زرعها الأعداء في وطننا منذ قديم الزمن. «ميرا» كانت الراهبة البطلة والضحية والمنتصرة في آن. و«طانيوس» كان اليدَ الخفيّة التي تحرّك كلَّ الأحداث ليرتقي بنا بثورته إلى ثورةٍ على ذواتنا وأحقادنا.

الفترة التي تدور فيها أحداث الرواية هي من عام 1840 وحتى عام 1875. وتركّز على عام 1860 عندما حصلت سلسلة من الاضطرابات، نتيجة ثورة الفلاحين على الإقطاعيين وأصحاب الأراضي. ربما كنتُ أفضّل أن أتمرّد على الزمان والمكان لأفصح عن الإنسان قبل الحدث، ولكن للضرورة أحكاماً وللرموز أشرعة وللقارئ حقّاً علينا في الإجابة عن تساؤلاته التي يضيق بها صدره عندما يقرأ في رواية تحدث في زمن غير زمنه.

الخطيئة مستقاة من التاريخ ولكنها لا تستند كلُّها على شخصيات واقعية عاشت في ذاك الزمن البعيد. ولكنني كروائية متأكدة من أنها وُجدت وعاشت وتألمت وما زالت تعيش بيننا وتتكرّر من جيل إلى جيل.

نحن نعيش كل يوم في خطيئة أكبر من خطيئة الراهبة «ميرا». خطيئة الصمت على واقعِنا الهشّ وأوجاعِنا التي لا ينضُبُ معينها في وطن جريح، كان قبلةَ الشعراء وقِبلةَ الأوطان فبات حُرقَةَ الألوان.

شكراً لحضوركم الكريم والشكر العميق للمركز الثقافي الروسي إدارة وموظفين الذين وفّروا لنا هذا اللقاء الجميل.

كلمة ألقيت في حفل توقيع رواية «الخطيئة» في المركز الثقافي الروسي في 17 الحالي، برعاية النائب علي بزّي، والصادرة عن دار «ناريمان للنشر».

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى