الفارق بين المشهد الوطني في الجرود وألعاب الخفّة في بيروت

د. وفيق إبراهيم

يضغط المتضرّرون من انتصار الجيش والمقاومة في الجرود الشرقية اللبنانية لاختراع صراع جديد عنوانه حقّ الدولة في السيادة على أراضيها كاملة وحصريّة استخدامها للسلاح، وهذا يفترض منطقياً تجريد المقاومة من سلاحها. ما يستتبع العودة إلى الصراعات السياسية الداخلية وعودة المتضرّرين إلى تشكيل محاور تشكّل امتداداً للاستهداف الأميركي السعودي لحزب الله وحلفائه، كما تعاود إطالة عمر القوّة السياسية الداخلية التي كانت تستثمر في الإرهاب… ولم تتوقّف إلا نتيجة هزيمته.

ما يؤسف له هنا، أنّ هذا الطرح المشبوه لم ينتظر انتهاء المعارك في عرسال، ولفرط ذعره من النتائج بدأ يحبك الفتنة بين الدولة والمقاومة، استباقاً للمراحل المقبلة التي ينتظر أن تكشف تواطؤاته مع الإرهاب من كلّ أنواعه ومشغّليه.

هناك إذن مشهد وطني كبير تجسّد بانتصار حزب الله على إرهاب «النصرة» في جزء لبناني من جرود عرسال، وبتحرير الجيش اللبناني للقسم الأكبر من جرود رأس بعلبك والقاع. وهذا مشهد وطني لعلاقته بالاستقرار الداخلي الذي لا يمكن تحقيقه إلا بالقضاء على المنظمات التكفيرية ووبائها الإرهابي. أيّ الآليات التي كانت محميّة بالسياسة من فريق لبناني لا يزال يعمل بإرشادات سعودية، اعتقاداً منه بأنّ هذا الإرهاب يعرقل حركة حزب الله الداخلية والإقليمية، وكانت النتيجة أنّ هذا الوباء ابتلع بلدة عرسال وجرودها الحدودية، مسيطراً على تفاعلاتها الداخلية، حتى أصبح المستثمرون اللبنانيون فيه هم الذين يعملون في خدمة الإرهاب ويسمحون له باستثمارهم… اسألوا علي ومصطفى الحجيري، اللذين يمتلكان الخبر اليقين عن مدى تورّط سياسيّي 14 آذار في دعم التكفير.

في المقابل، واصل المستثمرون سياساتهم الكيدية الخادمة للسياسة الخارجية، مخترعين التناقض بين الدولة والمقاومة في حركة تستهدف المشهد الوطني الواحد بين الجيش والمقاومة في الجرود الشرقية، وبالتالي لبنان. أمّا الأسباب فواضحة، وتتعلّق بمحاولة امتصاص انعكاسات النصر على الإرهاب على توازنات القوى في الداخل اللبناني.

ولا تزال أعمال الخفة السياسية تتوالى، فمقابل تمركز المشهد الوطني التحريري عند الحدود السياسية بين لبنان وسورية، بدأ الإصرار الأميركي السعودي يشكّل ضغطاً ثقيلاً على قيادة الجيش ورئاسة الدولة لكي تنفي وجود تنسيق بين الجيش اللبناني والمقاومة والجيش السوري.

لكنّ هذا الأسلوب لم يصدّقه أحد، فكيف يمكن نفي وجود تنسيق بين ثلاث قوى تقاتل في جبهات متقابلة، وأعلنت بدء العمليات العسكرية في وقت متزامن؟! وبذلك أصبحت بدعة نفي التنسيق مهزلة ارتدّت على مطلقيها، وبدت الحاجة إلى أسباب جديدة مسألة ضرورية وجوهرية، فكانت حكاية الطائرة الإماراتية و«الحقيبة المنفوخة» وبطولة الوزير المشنوق وأركانه في «المعلومات» محاولة بائسة للالتحاق بالمشهد الوطني العرسالي، بواسطة «أمن» يوالي أصحابه قبل الوطن. الأمر الذي أظهر مدى «صغر السياسة» أمام كبرياء المشهد الوطني الذي ظلّ قوياً يؤكّد التكامل بين الجيش والمقاومة، ومسيطراً على البعد الوطني الأساسي، تاركاً لصغار السياسيين إطلاق شعارات لا قيمة لها ولا تندرج إلا في إطار المزايدات الرخيصة للزوم السوق السياسيّة بمعناها الشعبوي.

لذلك بدا ضرورياً للجماعات السعودية اختراع مشاريع خلافات جديدة تسطو على وهج المشهد الوطني في الجرود، فأخذ سياسيون محسوبون على قوى «المستقبل» و«القوات» يلطمون ويتأسّفون على فقدان السيادة، معتبرين أنّ الجيش أثبت تمكّنه في الحرب وقدرته على الدفاع عن البلاد. ما يستلزم إنهاء «المقاومة» وتسليم الجيش الحدود الشرقية والجنوبية والشمالية، متناسين الحدود البحرية لأسباب قد تتعلّق ببواخر «فتح الله» وأشباهها، ونفّذ الحريري جولة على الجرود بدا فيها وكأنّه محرّرها.

وللردّ على محاولة التفجير هذه، فإنّ تذكير الحريصين على السيادة بأنّ «المقاومة» لم تبدأ إلا بعد سيطرة «إسرائيلية» مباشرة وغير مباشرة على جنوب لبنان 1948 وحتى اجتياح 1978 ثم اجتياح 1982 الذي أدرك العاصمة بيروت ، متراجعاً حتى حدود الجنوب الذي بقي تحت احتلالها 18 عاماً متواصلاً، ولولا المقاومة لاستمرّ الاحتلال قرناً ونيّفاً.

وهزمت المقاومة محاولة اجتياح «إسرائيلية» جديدة في 2006 باعتراف عربي ودوليّ، كما مَنعت حكومة فؤاد السنيورة في 2008 من اتخاذ تدابير مناهضة للمقاومة لشلّها، مع تسهيل اجتياح «إسرائيلي» جديد، ولا ننسى أنّ حزب الله دعم الجيش اللبناني مسهّلاً انتصاره على حركة الشيخ أحمد الأسير في صيدا، التي كادت أن تفجّر فتنة مذهبيّة في عموم البلاد.

وحزب الله نفسه هو الذي فتح هذا العام طريق تحرير الجرود مهاجماً تنظيم «النصرة» الإرهابي ومحرّراً قسماً كبيراً من جرود عرسال.

هذا هو المشهد الذي قدّمته المقاومة في أقلّ بقليل من أربعة عقود. أمّا أسباب عدم مشاركة الجيش بالتصدّي للعدوّ «الإسرائيلي» فلا تزال قائمة، ومعظمها على علاقة بالضغوط الأميركية الرافضة والسعوديّة المتواطئة. أليست واشنطن هي مَن تمنع الجيش من التسلّح النوعيّ وقبول هدايا روسيّة وإيرانية وغيرها؟

أليست السعوديّة مَن استعلمت القوى السياسية اللبنانية الموالية لها لمنع الجيش من مهاجمة الإرهاب في عرسال منذ أعوام عدّة؟ اعتقاداً منها أنّ باستطاعته النّيل من أدوار حزب الله في الجنوب والإقليم؟

المقاومة هي إذن امتداد للدولة التي تتعرّض لمطامع «إسرائيلية» وضغوط إرهابية، وبما أنّ حرّياتها مكبوحة أميركياً وسعودياً، وبما أنّها عاجزة حالياً عن تجهيز جيش يجابه «إسرائيل»، فإنّ بإمكان المقاومة بواسطة حرب العصابات التي أتقنتها أن تؤدّي دوراً يرفضه الأميركيون والسعوديّون، وهو دور المجابهة لـ «إسرائيل» والمتصدّي للإرهاب ومن دون تداعيات سياسية على الداخل اللبناني. فأحجام القوى لا تزال على حالها، ولم يأكل حزب الله من حصّة أيّ فريق داخليّ.

وبما أنّ الإرهاب ظاهرة إقليمية وعالمية، فإنّ بإمكان حزب الله ملاحقته في الإقليم بتسهيلات من حلفائه هناك، كما يحدث في سورية والعراق حالياً. لأنّ التغاضي عنه في البلدان العربية قد يحثّه على العودة إلى لبنان المترنّح من ضعفه نتيجة الخنق السعودي الأميركي.

لذلك، فإنّ بإمكان المقاومة مطاردته والقضاء عليه في الإقليم العربي من دون أن يكون للضغط الأميركي السعودي أيّ أثر يُذكَر عليها، لأنّها محصّنة بجمهورها وحريّاتها.

من هنا، فإنّ الأمل معقود بتحقيق تنسيق عميق بين الجيش صاحب السيادة والمقاومة المؤدّية إليها، فيمارس الطرف الأول أدواراً سيادية، ويجاهد حزب الله في سبيل منع الإرهابَين «الإسرائيلي» والتكفيري من تدمير لبنان والمنطقة.

وبما أنّ العلاقات السياسية هي من نواتج التوازنات، فإنّ زمن المحرّضين والمفتنين بدأ ينحدر مقابل تعزيز تحالفات وطنيّة تؤمّن الأرضية المناسبة للبنان مستقلّ ومزدهر ومجابه للإرهاب و«إسرائيل» والدور الأميركي السعودي في آنٍ معاً.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى