تنظيم الدولة ودولة «الهوان»

روزانا رمّال

تفتقد المقالات السياسية والمواقف الخشبية معانيها في لحظات وجدانية من هذا النوع،. وفي لحظات كتلك التي عاشها لبنان مساء أمس، تعجز الكلمات عن المتابعة الطبيعية للعمل الصحافي والفكري والنفسي أمام عيون بكت وقلوب اشتكت وأكفّ ارتفعت إلى السماء طالبة من السماء الرحمة وكشف المصير لتمتزج مع مشاعر أهالي العسكريين غضباً وشكوى إلى الله من ظلم ذوي القربى، أهالي العسكريين المخطوفين باتوا اليوم أهالي العسكريين الشهداء، وبكل فخر، لكن العزاء بدأ اليوم والحزن بدأ اليوم والقصة برمّتها أيضاً.

تخاذل الساسة في لبنان فاق كل اعتبار، والعمل السياسي صار أرخص الأعمال وأقربها للخيانة، فقدت الآذان السمع وتعامت الأبصار في لبنان عن الحقائق التي تعيشها المنطقة حتى هذا النهار..

الذي يجري اليوم هو خضوع أميركي لمنطق وحيد. وهو «العجز» عن إيقاف الآلة العسكرية لروسيا وإيران وسورية وحزب الله والحشد الشعبي في سورية والعراق، الذي يجري اليوم تحرير تلو التحرير ضمن منطق العمليات المتتالية من دون التوقف عند محاذير أميركية، أكان في الرقة أو في دير الزور أو في تلعفر، أو في الموصل سابقاً، لأن أياً من هذه القوى لن تسمح بإطالة عمر الحرب واعتبار المعركة تحتاج سنوات على الطريقة الأميركية حتى ثبت العكس بتدهور سريع لداعش وأخواته.

سقط الرهان على المعركة «الطويلة» واضطر الأميركيون للمشاركة اليوم، بدعم الجيش اللبناني في معركته بجرود رأس بعلبك «عنوة»، لكن الأهم أنه اضطر إلى «نسف» معادلة ربط لبنان فيها وروّجها فتمسّك بها بعض «الداخل» كإبرة المورفين لإطالة عمره السياسي حتى يأتي الأجل. وها هو أتى أمس مع جثث شهدائه الأبرار وافتضاح ارتهانهم وتساهلهم باعتبار ازدواجية المواقف ضرورات فحسب، بعد أن صارت مسألة قتال الإرهاب بالنسبة اليهم خطيئة منهجية.

حتى عندما اجتاح تنظيم «داعش» أراضيه بقي هؤلاء مصرّين على المواقف نفسها مع أن داعش لم ينأَ بنفسه عن لبنان، ولم يضع حداً للقتال فيه من أجل حلم «الدولة» عند الحدود السورية، بل اجتاح ما حلّ وطاب لنشر معتقدات «الدولة»، أما بعض الداخل اللبناني، فحلم الدولة عنده مختلف جداً، لا يعرف منه إلا إهانة الدولة: بيع وشراء وازدراء وترحيب بالإرهاب، ثم خلعه «فجأة» من دون أن تغيب موجبات الخلع سابقاً أو يحضر غيرها حاضراً سوى صفارة أميركية وافقت على بدء العملية على صفحة تويتر.

الحمدالله أن واشنطن طوّعت سياستها وفق المتغيّرات الميدانية، رغم هدفها الدفين بالإيقاع بين الجيش والمقاومة، مستفيدة من معارك الجرود. الحمدالله ان واشنطن قرّرت دعم الجيش اللبناني في عملية ضد داعش، وإلا لكان هؤلاء لا يزالون يردّدون عبارة وجوب نأي لبنان بنفسه عما يجري في الجوار، ووجوب ألا يعطي فرصة لداعش أن يقوم بعمليات انتقامية في الداخل. الحمدالله قولاً واحداً أن واشنطن قرّرت ما قرّرت.

أين هو النأيُ بالنفس اليوم بمعادلة الميدان وبالقراءة السياسية، وما هي نتائجه الفعلية إذا تمّ التسليم جدلاً أنه حمى لبنان وأهله وجيشه؟

كلّ سياسيّ تحدّث عن ثقافة النأي بالنفس يعرف مواقفه، لكن ما لا يعرفه أن العار سيلاحقه مدى الحياة فأسماء الشهداء باتت واحدة من علامات البؤس الذي سيُحيط بالطبقة السياسية الساقطة على أبواب السفارات وعتبات بواباتها، ذلك المكان الذي ينتظرون أمامه للتفتيش والتدقيق من مغبّة أن يكونوا أحد عناصر الإرهاب الداخلة اليها، أيضاً فلا ثقة في أحد عند أولئك غير المستعدين للتفريط بأمن سفاراتهم على أرضنا هم الذين سلّطوا مكرهم على لبنان وأهله، ومع ذلك يُسعد من نأى بنفسه التملّق والتزلف عند عتبات هذه البوابات أو عند اجتماعات التلطّي وراء المؤامرة التي يسمّونها واحدة من ضرورات العمل السياسي وما تفرضه التحالفات.

سقطت اليوم هذه الطبقة التي حكمت منذ بدء الأزمة السورية والتي أساءت التصرف وأمعنت بهتك المحرّمات. سقطت عند عتبات من نوع آخر.. عتبات رياض من رياض الجنة التي ستحتضن رفاتات شهداء الوطن في التراب الذي سيفتخر باحتضانهم ليرووا الأرض كرامة وشرفاً، حسين عمار وخالد حسن وعبد الرحيم دياب وعلي الحاج حسن وسيف ذبيان وعلي المصري وإبراهيم مغيط ومحمد يوسف ومصطفى وهبي.

أسماء فضحت لعبة انخراط حكومة النأي بالنفس وعهد النأي بالنفس الذي انتهج هذه السياسة منذ بداية الأزمة السورية بأجندة خارجية، هي نفسها التي تآمرت على سورية، ولا يمكن تحت أي ظرف من الظروف الإنكار بعد أن فقد قيمة التبرير بقبول مبدأ الهجوم على داعش، بعد موافقة السفارة الأميركية ودعمها رسمياً لذلك، والكشف أنها هي مَن فرمل العملية السنوات التي مضت. باستشهاد عسكريين تؤكد المعلومات أن جزءاً كبيراً من ضباط الجيش كانت تعتريهم رغبة الذهاب أبعد ما يمكن لاسترجاع زملائهم منذ تاريخ الخطف آب 2014، لكنهم مُنعوا بقرار سياسي يبدو أنه يطمح لرهن قرار الجيش اللبناني، ضباطاً وعناصر، لقيادة العمليات العسكرية الأميركية في المنطقة.

مرحلة النأي بالنفس «عار» سيدوَّن في تاريخ لبنان الحديث. مرحلة ولّت حملت كل معالم هوان الدولة وتداعياتها.. ارتهان القرار الرسمي للخارج بدلاً من الارتهان لكرامة ودماء تسقط من أجل قيامة لبنان ..

عهد فجر الجرود وتراب وطن يعود بزنود الفخار وجباه الوقار..

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى