عراق ما بعد الإرهاب وداعش

محمد شريف الجيوسي

حرّر العراق أراضيه من دنس الإرهاب وتمكن من الإجهاز على إرهاب داعش بين قتيل ومصاب وفار ولكن السؤال ماذا بعد ذلك؟

لا بدّ أنّ داعش التي عاثت في العراق فساداً وذبحا وتقتيلاً وتخريباً للإقتصاد والحضارة والنفوس وسلباُ وسبياً ورقيقاً أبيض وفتناً وتكفيراً، قد تركت خلفها خلايا نائمة وبعض عقول مغلقة، ومتضرّرين من الحاق الهزيمة بها، وسيجد هؤلاء التشجيع والحماية والدعم والتبرير السياسي والعقيدي من كلّ من ليس له مصلحة في استقرار العراق ونهوضه مجدّداً سواء في الداخل أوالخارج، ومن كل من له مصلحة في تقسيم العراق، وبقاء حالة الدعشنة فيه كظاهرة سياسية وكوجود بشري وعقيدي متطرف.

وأخال أنّ مواجهة هذه الخلايا والعقول المغلقة والمتضرّرين والمستفيدين من استمرارها في الداخل والخارج، سياسياً ووجودياً بغضّ النظر عما ستغلف نفسها به، ليس مهمة سهلة عابرة يمكن تجاوزها بيسير من الزمن أو بإجراءات أمنية أو قمعية أو قرارات ومراسيم أو رغائب مجرّدة حسنة النية أو ذات أجندات طائفية أو مذهبية أو إثنية أو جهوية ضيقة.

لقد تحوّل العراق الذي طالما أغدق الأموال على الغير إلى بلد مدين بنحو 1300 مليار دولار أشبه ما يكون إلى كانتونات متعدّدة الصفات يعبث فيه طامعون كثر من «إسرائيل» وتركيا حتى أميركا المتواجدة على أراضيه عسكرياً واستخارياً، في ظلّ غياب عربي نزيه منذ تولي بريمر مهامه كمندوب أميركي غير سام على العراق وسط صمت عربي رسمي بل وتشجيع أحيانا، إثر احتلاله بمساعدة من جاؤوا على ظهور دبابات أميركية وبريطانية، وبمساعدة أطراف إقليمية، باتت الآن تتنازعه الأهواء والمطامع والأجندات الجادة النزيهة والعابثة الطامعة التابعة ما يجعل من أمر استعادته لأنفاسه وقراره السياسي المستقلّ وإعادة بناء ذاته وأخذ دوره ليس أمراً سهل المنال وإن يكن ذلك ليس مستحيلاً أو غير ممكن.

لقد أودت عقلية الانتقام العمياء إلى عديد مآسي العراق الراهنة، فخرّبت بيوتاً وأسر وانتهكت كرامات، ما أتاح للمحتلّ الأميركي أن يأخذ راحته في غياب روح وطنية عراقية جامعة، تتجاوز أخطاء الماضي، حفاظاً على الأقلّ على المنجزات التي تحققت في عهد الماضي والبناء عليها، وعدم الدفع بالناس للجوع والتسوّل وللتطرف في النهاية، ما هيّأ لداعش تربة خصبة للتمدّد النفسي قبل العسكري والاقتصادي، ففي نهاية الأمر لم يكن العهد الماضي عهد الرئيس الراحل صدام حسين قد جاء من القمر وليس من العراق فقد ضمّ عهده كلّ أطياف العراق ، وكما لكلّ نظام في الدنيا ما له وما عليه، كان لعراق ما قبل الاحتلال مثله، ولذا فالاستمرار في ممارسة عقلية الانتقام والاجتثاث لن تقود إلا إلى انتقام واجتثاثٍ آخر ربما يكون أشدّ وأنكى وأوسع وهكذا دواليك… وهو ما يريده أعداء العراق من صهاينة وأميركان وغرب أوروبي ورجعية عربية وأخرى عثمانية مرحب بها من قبل الإسلام السياسي الإخواني والوهابي والتكفيري بعامة.

إنّ أولى خطوات بناء العراق بعد الإنهاء الأولي للإرهاب وداعش الظاهر منه على الأرض عسكرياً، هناك ما ليس ظاهراً منه بعد: خلايا نائمة ونفوس ظلمت وأخرى َظلمت ونفوس كروش مفتوحة ستعاود الكرة، وعقول مريضة وأخرى أصبحت مريضة لشدة ما وقع عليها إلخ… أقول إنّ أولى خطوات بناء العراق الجديد البدء ببناء مصالحات عراقية وطنية شاملة وتسوية أوضاع الناس من العراقيين حصراً أما الدواعش المستوردة من بقاع الأرض فلهم شأن آخر وربما يكون مفيداً الاستفادة من التجربة السورية في نهج المصالحات، التي بدأت وما تزال قبل أن تستكمل سورية النصر على داعش، وهي أيّ المصالحات تسرع تقدّم الجيش السوري.

إنّ استقرار العراق أو أيّ بلد آخر في العالم تعرّض لمثل ما تعرّض إليه، غير ممكن دون مصالحات وطنية شاملة، لتحول دون استمرار الشحن الطائفي والمذهبي والإثني والعنصري والديني… فلتسوَّ أوضاع العراقيين وفق قواعد عادلة دون تمييز على أساس المواطنة والولاء للوطن والقيام بالواجب الوطني والوظيفي لا العمالة للأجنبي وعدم سرقة وهدر أموال الدولة والاعتداء على أعراض وأموال الناس أيا كانوا.

إنّ المصالحات الوطنية وتسوية أوضاع العراقيين لا ينبغي أن تستثني أحداً منهم، بغضّ النظر عن المذهب أو الطائفة أو الجهة أو الإثنية أو الماضي السياسي، مع ما يستوجب من إعادة الناس إلى أعمالهم وأماكن إقامتهم وتعويض من ظلم، إلا من لا يريد مصالحة ويصرّ على البقاء في خانة التكفير والإرهاب ومن داعش.

هذه الخطوة الأولى التي لا بدّ منها لتهدئة النفوس ووضع حدّ عملي للشحن المدمر للعراق، وإغلاق الطريق أمام المتربّصين سوءاً به، لأجل عودته مستقرّاً ممتلكاً لقراره السياسي المستقلّ وإعادة الإعمار والبناء بأيدي أبنائه، ومن يختار من حلفاء نزيهين من غير الأميركان والصهاينة وكلّ من موّل ودعم الإرهاب وأيّد سلطة بريمر وفتح مطاراته لغزو العراق وسمح بعبور الجيوش الغازية عبر أجوائه وأراضيه.

لا بدّ أنّ العراق سيستعيد ذاته بأيدي أبنائه كلّ أبنائه، أو هكذا يفترض وينبغي، وما لم يتمّ ذلك فلن يعود العراق، وسيتمّ تقسيمه، وستتنازعه المطامع الخارجية والمافيات الداخلية التي ستتقمّص لبوسات مزركشة تبدو جميلة، لكنها لبوس زائفة لا إيمانية أو مسلمة ولا عروبية أو قومية او حضارية، تكرّس معانياته وتخريبه وتحقيق أماني أعدائه وأعداء الأمة.

m.sh.jayousi hotmail.co.uk

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى