احتكار القوّة الأميركي يتصدّع.. فهل يصدّق جعجع وحلفاؤه؟
د.وفيق إبراهيم
لماذا يصرّ بعض اللبنانيين على أن يكون لبنان في سلّة سعوديّة معروضاً للبيع للمصلحة السياسية لآل سعود! وتمتنع قوى سياسية أخرى في لبنان أيضاً عن التصديق أنّ عصر احتكار القوّة الأميركي بدأ يتصدّع؟! فيكاد هذا «التعامي» عن رؤية المستجدّات التي أنتجها الميدان العسكري في سورية والعراق والجرود الشرقية للبنان وهزائم «إسرائيل» المتتابعة في جنوبه، وثورة بوليفيا وفنزويلا وكوريا الشمالية، وصمود إيران الأسطوري وتململ أوروبا… يكاد هذا التعامي أن يدفع لبنان نحو الانفجار لولا صلابة حزب الله وحلفائه، وإصرار رئيس الجمهورية العماد ميشال عون على حمايتها.
لا بدّ في المنطلق من تأكيد أنّ انهيار الاتحاد السوفياتي في 1989، أدّى إلى ولادة عصر الاحتكار الأميركي للقوّة الذي جعل، وللمرّة الأولى في التاريخ، من بلد واحد مهيمناً بشكل كامل على القرار الدولي، حتى أنّه ألغى الأمم المتحدة ومجلس أمنها الدوليّ كي لا يصطدم باعتراضات من الدول الدائمة العضوية، مؤسّساً بديلاً منها ما أسماه المجتمع الدولي، أيّ أميركا والدول التي استتبعتها لسلطانها، وشكّل بعض القوى اللبنانية الذي سيطر على السلطة التنفيذية منذ 1992، جزءاً من نظام الهيمنة الأميركي السعودي ولا تزال…
ومن المعروف أنّ الاحتكار الأحادي للقوّة يستولد دائماً خططاً للهيمنة المطلقة والدائمةز وهذا ما حدث مع الإدارات الأميركية المتعاقبة منذ «الممثل الثانوي الأدوار» الرئيس ريغان، وحتى نهاية عصر «بوش الابن» الخفيف الثقافة.
لتطبيق أحلامها، وضعت الدولة الأميركية العميقة خطة متشعّبة، اعتبرت فيها أنّ بوسعها اجتياح بلدان وتأجيج الأوضاع في بلدان أخرى، وإثارة حروب للهيمنة الدائمة على عالم ضعيف ليس فيه من ينافسها أو يتحضّر مستقبلاً لمزاحمتها، لذلك أجّجت عشرات الصراعات الطائفية في مصر وباكستان والهند وأماكن أخرى، والعرقية عرب أكراد إيرانيون أتراك – عرب – أكراد ، وكبقية في مختلف البلدان روسيا الهند عرقي طبقي طائفي أوروبا الشرقية ، وعملت على أن تؤدّي هذه الأحداث إلى إضعاف بلدان قد تنافسها مستقبلاً روسيا الصين الهند مع تطويقها بشكل كامل من جهة أوروبا الشرقية والقوقاز وجنوب شرق آسيا.
ولم توفّر الدولة الأميركية العميقة حتى اجتياح الدول المستقلّة المعترف بها من الأمم المتحدة بجيوشها العسكريّة مباشرة، فكانت أفغانستان والعراق وبعض بلدان أميركا الجنوبية من ضحاياها، وسقط فيها ملايين القتلى من المدنيين من دون تحقيق نتائج باهرة أميركياً. فطالبان والقاعدة لا تزالان تحكمان أكثر من نصف أفغانستان، وتحاول واشنطن إبقاء جيوشها في كابول لمنع انهيار الدولة، كما نجح العراقيون بترحيل معظم الجيش الأميركي من بلادهم، مستعيدين الكثير من قرارهم السياسي وسيادتهم في معارك حرّروا فيها أراضيهم من سيطرة إرهاب «داعش»، الذي لا تزال واشنطن تتمنّع عن القضاء عليه إلا بشكل نسبي، فتغير على المدن التي يسيطر عليها ولا تقتل إلا المدنيين، وتعترف بحدوث أخطاء تقنيّة، وهناك أيضاً سيل من الهزائم المتتابعة أحدثت ثقوباً في بنيان الاحتكار الأميركي للقوّة بعد غزوها أفغانستان والعراق.
ولأنّ هذا الغزو لم يؤدّ إلى ما تريده واشنطن، بدأت بتنفيذ خطّة بديلة اعتبرت فيها أنّ تدمير سورية كفيل بتفجير المشرق العربي بكامله، لذلك كلّفت توابعها الأتراك والسعوديين والقطريين بالمهمة، فنظّموا أكبر «جهادية إرهاب» في التاريخ بحدود مفتوحة تزيد عن 3 آلاف كيلومتر من أربع دول.
لكنّ الدولة السورية المتمكّنة، وضعت خطة بدأت بالمحافظة على وحدة جيشها واستنفار شعبها بالتمسّك بالنهج الوطني غير الطائفيّ مقابل إرهاب تكفيري مذهبي، واستتبعتها بخطوات رائعة، تركّزت على عقد تحالفات مع نوعين من القوى جهاديّون فعليّون يرون أنّ الدفاع عن الدولة السوريّة الحاليّة هو دفاع عن المشرق العربي وإيران، متجسّداً بإيران وسورية والعراق وحزب الله والمنظّمات الإقليمية واللبنانية. أمّا النوع الثاني، فيضمّ روسيا وحلفاءها الذين يبحثون عن إعادة الاحترام إلى القانون الدولي لسببين: المحافظة على دولهم، وحماية دولة صديقة لها علاقات تاريخية معها، وهي سورية بالطبع الوحيدة التي يمكن لهم الخروج منها إلى التفاعلات الدولية.
لقد جسّد هذا الميدان انكسار القوّة الأميركية، التي لم تبخل بقوّة إلا واستعملتها من أجل إسقاط الدولة السوريّة في سلّتها أو تفتيتها في حال تعذّر الهدف الأول… استعملت الجيش التركي والأمن الأردني وبعض الكرد والغارات «الإسرائيلية» والأميركية على الجيش السوري وحزب الله وآلاف المستشارين الأوروبيين إلى جانب مئة ألف إرهابي أجنبي تقريباً، وأكثر منهم ينتمون إلى سورية ودول عربية مجاورة.
ونجحت رباعية الجيش السوري ودولته وشعبه وتحالفاته العربية والإقليمية في إجهاض الخطة الأميركية، حتى أنّ البؤر الخاضعة للإرهاب لم تعد واسعة، بما يؤكّد أنّ الإرهاب في سورية إلى زوال قريباً.
يتبيّن بالاستنتاج، أنّ إيران المحاصرة منذ أربعة عقود نجحت وانتصرت على محاصريها، كذلك اليمن الذي صمد في وجه تحالف عربيّ بدعم غربيّ و«إسرائيليّ» دمّر الحجر والبشر، ولا ننسى لبنان الذي ألحقت مقاومته الهزيمة بالإرهاب المدعوم أميركياً وسعودياً، والذي استوطن جروده لثلاثة أعوام.
وهل يمكن فصل الأزمة الخليجية عن تداعيات التراجع الأميركي في «الشرق الأوسط»، من دون نسيان التقهقر التركي الذي لا ينفكّ يصيح مطالباً بأيّ شيء ولا يجد مَن يسمع؟!
وما حكاية كوريا الشمالية، هذا البلد الصغير الذي يسترسل بتحدّي واشنطن متوكّئاً على قوّة نوويّة متواضعة، مع إيمانه بالدورين الصيني والروسي، اللذين لن يتركاه خشية سيطرة أميركا على بحر اليابان وشبه الجزيرة الكوريّة، بقسميها الشمالي والجنوبي الملاصقين للصين وروسيا؟!
وهذه أوروبا بدورها، بدأت تتململ من الهيمنة الأميركية على شكل عقود تجاريّة، وأخرى لاستخراج الغاز بين فرنسا وإيران. وألمانيا بدورها تعقد الاتفاقات الاقتصادية مع إيران وتنتقد البيت الأبيض. أمّا أميركا الجنوبية، فتمرّدها على واشنطن يتدحرج من فنزويلا وبوليفيا إلى البرازيل المحتمية بمنظمة بريكس المعادية للهيمنة الأميركية.
هناك إذاً تحرّك روسي ضخم لاستعادة دور روسيا العالمي من خلال قوّتها وتفاعلاتها العسكرية – السياسية، إلى جانب القوة الاقتصادية الصينية التي ترعب واشنطن.
هذا لا يعني أنّ الأميركيين فقدوا قوّتهم، لكنّه يؤكّد أنّ قوى مجابهة لها ازدادت قوة بالمجابهة واستعادة الإمكانات والتفاعلات والتحالف، وهذا يستدعي باللغة السياسية الدولية، عقد تفاهمات مرجعية جديدة بين القوّة الموجودة ومَن أعاد إثبات جدارته الكونية، وذلك بهدف تنظيم السلم العالمي وإدارة النزاعات.
ولأنّ الأردن لم يستوعب هذا التغيير الدراماتيكي، سارع إلى تفاهمات «حدودية» مع سورية، لا بدّ أن تصل قريباً إلى السياسة، ولم تتأخّر السعودية عن فتح قنوات مع إيران لإيجاد حلول لخلافاتها التاريخية، وكذلك فعلت تركيا التي انفتحت على روسيا وإيران. أمّا قطر، فأعادت علاقاتها الدبلوماسية مع طهران.
إنّ كلّ هذه التغييرات في «الشرق الأوسط»، لم تتمكّن من تحريك شعرة واحدة من رؤوس آل الحريري وأبطال حزبه المستقبل السعوديّ الهوى… هؤلاء لا يزالون يعملون على تأجيج الوضع الطائفي والتعمية على انتصارات حزب الله بالفبركات الإعلامية والفرار إلى الأمام.
لجهة قائد القوات اللبنانية سمير جعجع، فلا يزال حتى الآن يطلق النار على سورية وإيران وحزب الله، ويتّهمهم بإنجاب «داعش» وحمايتها… فأين يعيش هؤلاء السياسيّون؟ ولماذا لا يتحيّنون الفرص لإنقاذ مستقبلهم والتنسيق مع سورية وتأييد دور حزب الله المتصدّي للإرهابين «الإسرائيلي» والتكفيري منذ 1983؟
يبدو أنّ «المشغّلين» الأميركيين والسعوديين يعدونهم بالحماية واستمرار الوظيفة، وهم لا يسألونهم عن الطريقة! ونسي هؤلاء اللبنانيون أنّ صفحات التاريخ ملأى بقوى عظمى تخلّت عن أوراقها الصغيرة بعد انتهاء وظائفها… وموسم الهزائم المتدحرج يشجّع على التخلي عن القوى الصغيرة وتركها لمصيرها، ويبدو أنّه على الأبواب لأنّ لغة الشتم لا تكفي للاستمرار في العمل السياسي حتى في لبنان بلد الطوائف والمذاهب، فانتصار جرود عرسال يراه حتى الأعمى، فلماذا لا يكون هذا الانتصار المدخل إلى بناء دولة لبنانية وطنية ومدنيّة لا تفوح منها روائح السمسرات والعمالة والفساد والولاء للخارج على حساب السيادة؟ الأمر يستدعي بكلّ تأكيد مزيداً من التفكير.