سعاد محمد تبوح نبضاً في ديوان «الغريب»

محمد رستم

لم تجافِ الشاعرة سعاد الحقيقة عندما وسمت ديوانها بـ«الغريب»، ذلك أنه الغريب ـ فعلاً ـ عن السائد الشعري، إذ نلحظ منذ الحروف الأولى أنّ الشاعرة لا تكتب شعراً فحسب، إنّها تبوح نبضاً، وتوقّع مشاعر، هي من الآخر تنثر السحر الحلال الذي لا ينطق إلّا عن هوى مقطر من خوابي عالم شعري لا حدود لفضاءاته، ويكاد الإهداء يشكل عنونة مواربة لما في الديوان من رؤى وأحلام داعبت فكر الشاعرة ومخيّلتها.

والعنوان «الغريب» وإن حملت آخر القصائد الاسم ذاته، إلّا أنّه يرخي بظلاله على كامل الديوان. بل تشكل الغرابة سدى القصائد ولحمتها جميعا. وللوهلة الأولى يخال القارئ أنّ الديوا ن لا يخرج عن خارطة الهاجس الأنثوي العشقي المتعالق مع الآخر «الذكورة» إلّا أنّ المحاور الدلاليّة في الديوان وإن كانت مؤسسة على بؤرة «الأنوثة والذكورة» إلّا أنّها تحيلنا إلى محاور متعدّدة محور حرية الانثى ومكانتها، محور طبيعة العلاقة بين الأنثى والآخر، محور محبة الوالدين، محور الهم الوطني والاجتماعي . والمعروف أنّ بنية العنونة هي أولى عتبات الفعل الشعري وهي الحبل السريّ الممتد إلى كل محاور الديوان، الذي نجد فيه حواراً دائباً بين ذات الشاعرة والآخر، هذا الآخر الذي ترشه الشاعرة باللّوم والعتب المر، تاركة ملامحه في عالم الغياب من دون حصر في مواصفات، فيبقى هذا الآخر غائماً يشبه الوهم، فقد يكون إنساناً، حبيباً، وقد يكون حلماً، أملاً، واقعاً. إذا هو حوار بين «جوّانية» الشاعرة و«عالمها الخارجي»، وليس لهذا الآخر إلّا أن يوقظ اللهفة في أعماق أحاسيسها: من أيقظ اللهفة، أنا أم أنت؟

وهي هنا تتناول المشاعر والأحاسيس التي تشكل المساحة الكليّة لعالم الأنوثة فتبوح بما في أعماقها من عواصف اللهفة ولا تني تفصح عن حاجتها للآخر، للذكورة التي شكلت على الدوام جسر عبور نحو الحياة:

أحتاجك ضلعاً لفرح المكسور

نخباً خرافياً لصيف أقماره خائفة.

وعندما تضطرم المشاعر الصادقة يكون الشوق للحبيب فاتحة الكتاب:

الشوق أن يتعارك اللهب والزمهرير على ثلج الغياب.

وفي سهوب العلاقة مع الآخر قد تبرز الغيرة، الغدر، النكران، عند ذاك يكون الحبيب «يوسف القصيدة»:

أناصبك الحب

وأتصيّد سقطات شوقك

لا تسقط

حتى لا تجفّ القصيدة

لا تسقط

حتى لا تتمرّغ الشمس

عند أقدام الظلال.

وبشفافية ساحرة تبيّن كيف تمهّد الأنثى تضاريس كينونتها لتغدو سهوباً مزهرة تمرح فيها رياح الرجولة فتبدع أنثى منقحّة:

بين العدل

ومشيئتك وبناتها

بين ما يجوز وما أحبّ

يحار الميزان.

وتعبّر بعمق عن حقيقة حواء التي لا تجد سعادتها إلّا في القفص الذهبي مع آدم:

فضاؤك هو قفصي

تبّاً لعقل الأنثى

من قال إن للعملة وجهاً واحداً؟

وكثيراً ما تطفو على السطح في خضمّ الحياة بعض الموجات المشاكسة فتكون حوارية الحبّ بين آدم وحواء، ولأنّ الحب هو عطاء بالمطلق إذ تعطي الأنثى وتعطي، فيظن آدم أنّه النبي المنتظر ويخونه التفكير فتصرخ:

العطاء اللئيم

هو أن تبذخ بكل ثروتك على من تحبّ

أن تفيض وتفيض حتى يظنّك

وحدك سادن الفرح

ويظن نفسه هو النبي المنتظر.

والشاعرة تعرف بحقّ مكانة تاء التأنيث ونون النسوة في فضاءات هذا الكون، لولاها لصار الوجود قاعاً صفصفاً:

مرايا انكساركم الضريرة نحن

نحن كستناء ليلكم

محافظ أسراركم الخرساء نحن

نشوة التفاح

فقشّرونا على مهل

من الجنّة أخرجناكم

ومن بوّابة رضانا إليها تعودون.

ولعلّ أهم ما تبتغيه الشاعرة للأنثى أن تكون أميرة في بلاط أميرها الرجل لا جارية:

لكن

لا ترسمني جارية

ترقص في بلاط هارون الرشيد.

هي إذا تطرح قضية الأنثى التي صاغت أقواس المجتمع ونواهي اللغة والخطوط الحمراء للأعراف حجم مشاعرها ولون ضحكتها وطول قامتها، فترى في الإرث الاجتماعي، مستحاثات عفا عليها الزمن:

وهنا مغارة مهجورة

تجترّ المستحاثات فيها زمناً إضافياً

تورّمت أقدام الضوء

ولم تجد لها باباً.

وتبيّن أن الأنثى إنما تسلك في الحياة درب متاهة لا معالم واضحة فيها، وليس من سلاح لديها سوى الورد والسنابل:

أنا ما تعوّدت أن أقاتل

دروعي ورود

وسيوفي سنابل.

وكثيراً ما يعمد الآخر إلى أحلامها الأنثويّة الدافئة فيمزّق أشرعتها الراحلة نحو إثبات الكينونة والحريّة والخصوصيّة. فتقف زهرة في وجه الأنواء تنثر عطر أنوثتها بينما تجهد رياح الذكورة إلى اقتلاع بتلاتها الملونة بالطيبة. والشاعرة في علاقتها بالآخر تنأى عن الميوعة العاطفية التي ترمي اللغة بالرخص والدنس فتعتكف في محراب الحب الطاهر المزنر بالجمال الممتلئ بخزائن النعمى واللغة الراقية. وكثيراً ما يتعطّر الحبّ بالدموع ويتدثّر بالأحزان:

يا حبّ نسلك دمع يا حبّ.

لكنّها مع ذلك ترى أنّ الاختلاف بين الرجل والمرأة لا يفسد في الودّ عناق، لكن بيادر من الخوف تتكوم وبخاصة من الرؤية الغائمة أخاف الضباب، وترعبها القلوب الحبلى بالحقد المغسولة من المحبة:

أخاف المتجهمين

عباد المحافظ

الحبلى بالحقد.

وتصوّر مرارة الكابوس الذي عاشته بلادنا:

ربيع منكوب

ينابيعه لفحها الفقد في صدر الحلم

فتجعّدت الضحكات

الشرف صار حذاء

والدين عرّوه على مسارح الشهوات.

وهي في دعوتها إلى السموّ الإنساني تقارب الرومنسيّة في التماهي مع صفاء الطبيعة: فتسبق ظلّك

وتنتسب لحزب الشمس

الموالي للعصافير والرغيف.

وهذه من المحمولات الفكرية الشفافة للديوان وكأني بها تستحضر قول السيد المسيح: «تشبّهوا بطيور السماء فإنها لا تخزّن الحبّ بالعنابر». وبقوله «أنا خبز الحياة». وهكذا يتجسّد الديوان صوامع نبض، وغيوم مطر، ومساجد صلاة وتبتل، وقوافل مشاعر. والحلم لديها إنّما هو رغبات لم توضع على قيد الإنجاز في واقع بات اليباس والتصحر خارطة وجوده، وترشق بسهام الحروف المخادعين والانتهازيين الذين يسرقون قوت الفقراء:

من سرق رغيف الإله

لم يكن الضالون في الحقل

كانوا على البيدر يفتتحون المزاد.

وكشاعرة مرهفة الحس لا يمكن إلّا أن تكون بارة بوالديها. ولا تخرج من جلد المثل القائل «كل فتاة بأبيها معجبة». تقول:

أيها الواثق كالفطنة

الهيّن كقطرة وردة

المنيع كأمنية

تزيل الشوك من دروب الغد. كما ترى في الأم سيدة الجلنار «أمي لم الريحان يمسك بذيل ثوبك؟».

وحول بناء القصيدة، فقد تحيل الشاعرة موضوعها إلى حكاية صغيرة كما في «دكّانة الحبّ» وتعتمد أحياناً مداميك تقوم على لقطات متباعدة ليس من رابط بينها سوى ذات الشاعرة كما في قصيدة «في مهبّ الخيال»، ومما يلاحظ أن نصوصها تتعالق مع مختلف العلوم الإنسانية وكثيراً ما تمتح من الذاكرة. ولعمق ثقافتها وبراعة قلمها فإنها تجيد استحضار التراث بحرفية وتناصّ جميل:

أحتاجك ضلعاً لفرحي المكسور.

كلّ الكلمات زلفى روحي إليك.

وببراعة توظّف مناسك الحجّ «بين صفا راحتيك ومروة خدّي». وتجيد تقليب الفكرة «ذواقة هي المنايا، ما اختارت إلّا عيون الزهر». تذكرنا بقول الشاعر «توخى حمام الموت أوسط صبيتي… فلله كيف أختار واسطة العقد». وفي عودة منها إلى النزع الرومنسي توظّف مفردات الطبيعة في نسيج القصيدة:

ومن حيّنا ينقل القمر خيمته

تبحث في أدغال الحبر.

وهي تستولد معانٍ جديدة «وهنا مغارة مهجورة، تجترّ المستحاثّات فيها زمناً إضافياً». وكثيراً ما تعبّر من خلال الصورة فيأتي تناولها الفكرة بشكل موارب جميل. «ربما على شاطئ بحر، ينام في سرير الزرقة، قرير الموج، نورس شقي». وحيثما تولي وجهك في الديوان تطالعك اللوحات الساحرة فريشة الشاعرة تشي بخبرة فنية تقوم على تكثيف الصورة الشعرية التي تعتمد الانزياحات في فضاء خيالي رحب فتاتي الصورة ثلاثية الأبعاد وتزين صورها بالصفة حيناً «في حضرة هذا الشوق الفاجر»، أو بجعل مقصدية الكلام مضافاً إليه «جفّت الابتهالات على شفة القصب». وهي تستثمر الدوالّ الشائعة لتحيلها إلى دوالّ أخرى «أناصبك الحبّ». وبهذه الميكانيكية الجديدة تحدث صدعاً مفاجئاً في معمارية بناء الوحدات الصغرى «الجُمل» بل في مداميك بناء القصيدة ككل هي تجترح حداثة أسلوبية بلغة باذخة محملة بطاقات تعبيرية هائلة، ما يجعل جملتها الشعرية تضجّ بالحركة واللون والظلال والنور وعطر الحياة، ما ينتج حصيلة جمالية راقية.

إنها تستولد قصيدة بِكراً، لا تعرف سنّ اليأس وبالتالي لا تجاعيد ولا أصباغ، إنها تكتب الحياة بشفافية ومن دون مساحيق ببراعة وصدق فتنسج قمصان الأخيلة على نول الحلم، ولا تني تعربد بمألوف اللغة فتكون الدهشة التي تأخذك إلى فيافي الخدر.

وتنبعث من الحروف موسيقى داخلية تتهادى سمفونيات متماوجة مع أصوات الحروف بين هامس وصادح وهوائي وصائت. وإذا كانت ذات الشاعرة حاضرة على الدوام تحت وقع حمأة المعاناة إلّا أنّها لا تخندق ذاتها في مطب الانغلاقية التي تحيل الكتابة إلى حروف هلامية زئبقية المدلولات لا كيان لها ولا آفاق فتغدو مجرد اندياحات سريالية مغلفة بضبابيات التهويم، ولا بد من التنويه إلى أنّ التكثيف والتزاحم في الصور يضيّق من مساحة فهم المتلقي في هذه الزحمة المرورية.

كما أنّ بعض قصائدها تاهت في صحراء الإطالة ووقعت في سهوب الشرح فبانت عليها علامات الترهل.

وهذا لا ينفي أننا أمام صوت شعري عالي النبرة واثق الخطوة يمشي شاعراً، يسيل حبره ليغتصب بكر المعاني بقوة وثقة.

كاتب سوري

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى